مررت بفترة في حياتي كنت أدمن فيها على سماع فيديوهات التحفيز والتطوير الشخصي، ورغم أن تلك الفيديوهات حوت فعلا الكثير من المعلومات الجيدة، إلا أني وجدت نفسي بعد فترة من الإنصات لهم غارقا في حالة عنيفة من جلد الذات والتسويف والتهرب من الأخطاء، وبالطبع أثر هذا على إنتاجيتي بشكل سلبي تماما، وعندما بحثت أسباب هذا الإهمال العام في حياتي وجدت التالي:

ابن خالتك أصبح العالم كله

أول مشكلة وجدتها هي أن معظم القصص التي تعرض في قنوات وكتب التحفيز هي في الحقيقة مجتزئة من سياقها العام والحقيقي، بمعنى أن القصة مختصرة بشكل كبير، ولكن قبل أن أكتشف ذلك كان عقلي يقارن ظروفي ومجهودي بما سمعته من قصص في تلك البرامج، وبما أن معظم القصص كانت تختصر الكثير من المراحل، فكان هذا يعطيني فكرة عامة مغلوطة أني غير موفق لأن الأمر لا يسير معي بنفس السلاسة التي حصلت مع البطل في القصة؛

كمثال: عندما تسمع قصة عن شخص أستطاع تعلم لغة جديدة في ثلاثة أشهر، فأنت في الحقيقة تسمع النتيجة وليس التجربة، فقد يكون الشخص حاول لسنوات اكتساب مهارات تؤهله لتعلم اللغات في ٣ أشهر، أو أن دراسته وبيئته الأساسية كانت داعمة له على ذلك، وما أعنيه هنا أننا لا نسمع إلا الجانب المتألق الجذاب من الحكاية وليس تاريخ التجربة بالكامل. 

الشيطان يخفي التفاصيل

عندما بدأت في الاستماع إلى برامج التحفيز، وردت على أذني عبارات مثل: ما اللذي تنتظره؟! هذه فرصة لا تفوت؟! إلى متى ستظل في مكانك؟!

والكثير من العبارات البراقة اللامعة التي كانت تتردد على أذني يومياً، لكنها ما إن تدخل إلى عقلي حتى تنزع قناعها اللامع وتخرج أسلحتها وتسطوا على أفكاري، فتلك الجمل التي من المفترض أنها تشجيعية إنما هي في الحقيقة ضاغطة وتشكل نوع من اللوم النفسي البسيط والمتراكم الذي يوصل في النهاية إلى الإحساس بالعجز والخيبة، لأن الشخص حين يسمع تلك الكلمات يتجاهل وضعه الحالي ويبدأ في لوم نفسه على عدم قدرته على تحقيق أهدافه، فيتناسي الإنسان مشاكله النفسية والصحية والعائلية والمجتمعية والتي في كثير من الأحيان تعطل مسيرته بشكل كبير، وتجعله يغرق في دائرة لوم النفس وبالتالي الهرب من المواجهة والإنسحاب.

حجر وريشة

بعض المفايهم عندما نتمكن من فهمها بشكل صحيح تتغير نظرتنا لأنفسنا، ولكن تلك البرامج التحفيزية كانت تغالط في الكثير من المفاهيم، ومن أهم تلك المفاهيم هو مفهوم الفشل؛

إذا سألت أي شاب مراهق عن رأيه في أبيه فمهما كان وضع أبيه المادي أو الاجتماعي، فسوف تجده غير راض عنه وسيقول لك: بصريح العبارة لا أتمنى أن أكون مثله.

وفي البداية تعتقد أن هذا تطلع إلى الافضل، ولكنه في الحقيقة ازدراء؛

لأن البرامج التحفيزية تعرف الفشل على أنه الحياة العادية، تجد بعض المتحدثين التحفيزيين بينما يتحدث عن المستقبل يقرنه بمجموعة من الوظائف والأوضاع الاجتماعية، وبعض الصور التي يستخدمونها في برامجهم تكون لأناس يستعملون منتجات معينة تعبر عن الترف والاتاجية العالية؛

فهندما لا يرى الشاب أباه يذهب إلى العمل بسيارة حديثة أو يعمل على جهاز متطور أو لا يمتلك جوالاً من آخر ما أطلقته الشركات ولا يمكنه التحدث بعدة لغات، فيبدأ هذا الشاب في ازدراء ابيه، هذا الأب الذي حارب كل الظروف طوال عمره، فقط ليوفر لابنه تلك القدرة على الاستماع إلى تلك البرامج وهو في بيت فيه كل مقومات الحياة،

وهذة معضلة ربط الجوهر بالمظهر، وهي مشكلة يعاني منها معظم الشباب ويروج لها معظم المحفزين ودعاة الإنتاجية؛ 

فحياة الأب الناجحة التي تمكن فيها من تحقيق الكثير من الإنجازات التي لا يتمكن معظم الناس من تحقيقها، أصبحت الآن بالنسبة لهذا الشاب حياة بلا هدف، رغم أن هذا الشاب لا يفعل أي شيء في حياته، إلا مشاهدة هذه البرامج والحكم على أهله والآخرين. 

الفراشة والنسر

كلما اتجهنا إلى الأعلى قلت أعداد الصاعدين

وجدت إحدى الدعاة مرة يوجه أغرب نصيحة شاهدتها يوما؛

قال الله تعالى في كتابة العزيز:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٥].

هذا كلام الله ومعناه أن مجرد دخول الجنة فقط في أي درجة من درجاتها في حد ذاته فوز. 

أما هذا الداعية فكان يقول أنه يشفق على الذين لن يدخلوا الدرجات العالية من الجنة وسيدخلون درجات أقل من الفردوس، وكان يصفهم بأنهم سلبيون وليست لديهم الهمة العالية التي يجب أن تكون عند المسلم،

وهذا التباين العجيب بين كلام الله سبحانه وتعالى وبين كلام هذا الداعية جعلني أدرك أننا كبشر لا ندرك الفرق أبدا بين الفوز والفوز العظيم. 

جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم:

"أنَّ أعْرَابِيًّا جَاءَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ أخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ فَقالَ: الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ شيئًا، فَقالَ: أخْبِرْنِي ما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ شيئًا، فَقالَ: أخْبِرْنِي بما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ فَقالَ: فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَرَائِعَ الإسْلَامِ، قالَ: والذي أكْرَمَكَ، لا أتَطَوَّعُ شيئًا، ولَا أنْقُصُ ممَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شيئًا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أفْلَحَ إنْ صَدَقَ، أوْ دَخَلَ الجَنَّةَ إنْ صَدَقَ" [رواه البخاري]

هذا الحديث يعني أن مجرد الإلتزام بالأساسيات كافي لدخول الجنة، لكن الاستزادة تكون لرفع الدرجات فيها، فلماذا يحاسبنا الدعاة على التقصير فيما كان زيادة عن المفروض، أليس المفروض أن يكون الترهيب في عدم تخطي الحدود أما الترغيب فيكون عادة في ما يفيض عنها،

لكنك تجد صيغة الفرضية معممة في كل كلام الدعاة تقريبا، حتى لو كان يتحدث عن ما أقر علماء الشريعة بالإجماع على أنه سنة أو مندوب.

القمع العظيم

وهذه الفلسفة هي التي تجعل دعاي الإنتاجية عندما يتحدثون عن النجاح يرهنه فقط بالنجاح الأقصى وليس بالنجاح الذي يطلقون عليه لقب عادي وهو ليس بعادي،

فعندما تدرك أن معظم طلاب المرحلة الثانوية لا يتمكنون من الوصول إلى المرحلة الجامعية ويكتفون بشهادتهم فقط، تدرك حينها أن الوصول إلى أي كلية نجاح، عندما تدرك أن معظم طلاب الكليات لا يتمكنون من إكمال الدراسة، تتأكد ان مجرد النجاح في سنوات الكلية فوز، وهذا لا يعني أن الحصول على الشهادة الثانوية ليس إنجازً بل هو نجاح صعب في حد ذاته؛

لكنه لا يحتسب فوزاً لا من الأهل ولا من المجتمع فأنت في نظرهم عادي، وهذا بسبب معضلة المقارنة والقياس بالآخر دون النظر إلى الظروف والمشاكل التي واجهها الشخص في رحلة الوصول إلى نجاحه،

وفي النهاية يجد نفسه يحاسب على أنه لم يدخل الفردوس فالحمد لله أن أمرنا بيد الله الرحمن الرحيم لا بأيديهم، ولكن ما يقوم به التحفيزيون أبعدُ بعدُ من كل هذا لأنهم يحاسبونك على ما ليس عدلاً ولا فضلاً حتى.

العصا وتاج الملك

لا يمكن الاجتهاد لتكون ملكاً على عرش أحد الدول لأن هذا الأمر متعلق بالوراثة أو بشن الحروب والثورات ولا يمكن لأي أحد أن يقوم بهذا، فلذلك يعتبر من يصل إلى مثل تلك المناصب أستثنائيا.

لكن عندما يتحدث المحفز عن شخص تمكن من تعلم عدة لغات وصار يقبض راتبه بالعملة الصعبة، يعود ليتحدث مع السامع على أن من لم يقم بالمثل مقصر في حق نفسه، لأنه لم يتمكن من تحقيق ما حققه هذا الأنسان الذي كان نجاحه في الحقيقة استثنائياً؛

إذ أنه قرر أن يطور نفسه في مجال تعلم اللغات حتى تمكن من تعلم أكثر من لغة، وليس من المفروض أبداً أن يقوم كل الناس بتقليده، بالطبع يمكن الإستفادة من تجربته، لكن لا يجب محاسبة أحد على عدم قدرته على القيام بالمثل.

أنا أو لا شيء

إذا كنت غير مهتم بالبرجمة كمثال، فستجد من خصص فيديو كامل عن خسارة وخيبة وضياع من لم يتعلم البرمجة وهكذا التصميم وصناعة المحتوى وغيرها، الجميع يرى أن مجاله هو المجال الأهم والأكثر طلباً، وأن عدم دراسة مجاله خسارة عظيمة وهذا طبيعي لأن كل شخص يبالغ دائما في الإحتفال بنصره، لكن هؤلاء لا يخبروننا أبداً كيف وصلوا من ساعدهم؟

الرفيق قبل الطريق

لأنه في الحقيقة ووفقاً لكل قصص النجاح المعلنة كان هناك داعم موجود على الدوام،

ولكن هذا الداعم يظل ظلاً أنت لا تعلم عنه شيء، وهو الجانب المخفي من الحقيقة دائما. 

لكن هذا لا يعني ألا نقوم بأي شيء حتى نحصل على دعم، إلا أن فهم حقيقة أن النجاح هو مجرد تحقيق الممكن تساعدنا كثيراً في تجنب الكثير من الجلد الذاتي وألم الضمير على أشياء ليس من المفروض علينا القيام بها أصلا، بل هي فاضلة عن مهامنا ووظائفنا الاساسية، والمشكلة هي في تعريفنا للفشل، فالفاشل هو: الذي لا يحول أما الفشل في المحاولة فهو أمر طبيعي ومنطقي لأنه توجد الكثير من العوامل المتجاهلة التي تؤثر علينا حتى لو لم ندركها، وعلى من وصل إلى نجاح استثنائي أن يحمد الله على ما حققه فإنه ما حققه بعلم عنده إنما كان بفضل الله عليه،

وهو المعنى الغائب عن مجتمعنا المضطرب الغريب الذي لا ينفك يحاسبنا على ما لا طاقة لنا به. 

طريق الجبال وطريق الحرير

كل واحد منا مكتوب طريقه عند الله، فلا داعي أبداً لنقارن طرق بعضنا ببعض،

بعض الناس رزقه الله طريقاً ممهدة، والبعض طريقه مليئة بالحفر، والبعض طريقه عبارة عن سلسلة جبلية، وهكذا كل واحد منا رسم الله العليم له طريق خاصا به؛

دعني أسألك سؤالا: هل يمكن المفاضلة بين الأنبياء أو الصحابة؟ هل يمكن أن أقول أن أبا هريرة أفضل صحابي لأنه الأكثر رواية للحديث عن النبي، أم أنه الفاروق عمر الذي كان مجرد دخوله للاسلام أكبر مكسب لأهله، أم أنه أبو بكر الذي صاحب النبي الكريم في كل خطوة وتحمل معه وبعده أعظم المشاق،

في الحقيقة لا يمكن المفاضلة بينهم بأي حال، لأن لكل منهم طريقه وطريقته الخاصة في التعامل مع الدين والحياة وكلهم صائبون وكلهم على حق وكلهم في الجنة بأذن الله وبرحمته كما بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛

فلماذا لا نتعلم من هذا المثال العظيم، الذي يجعلنا ندرك حقيقة وعمق الإختلاف فيما بيننا وأن لكل واحدٍ منا طريق مفصل على مقاس قدراته وامكانياته، لذلك فالمقارنة لا معنى لها.

وأنهي مقالي بالآية الكريمة التي تعلمنا هذا الدرس من خلال دعاء نلتزمه كل يوم وهي قوله تعالى:

﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:٢٨٦].