بعد الخروج من ردهة الامتحان، أخبرني صديقي: الآن سينشر حمزة مقالًا عن تجربته في الأوسكي، وكنتُ متململًا من إجابتي ذلك اليوم وقلتُ له: لا لا! لن أنشر، هل تظن أنِّي أنشر عن كل شيء يجري في حياتي؟

الأوسكي OSCE هو مختصر لكلمة أجنبية أتكاسل عن البحث عنها في كلّ مرة، ما فائدة البحث عن شيء نعرفه؟ هو امتحان مهارات سريرية في كلّية الطب. وهو امتحان يختبر أعصابك أكثر من مهاراتك.

في هذا الإمتحان يقف عليك أستاذ أو أستاذان، ويراقبان ما تصنع مع المريض كمنكر ونكير، وإذا كان حظَّك جيًدا ولم تنسَ حركة من حركات الفحص، وطبّقتها بشكل صحيح. لن يُكافئاك، بل سيتحفّزان أكثر لسؤالك بعض الأسئلة التي تحاول أن تُسقطك أرضًا، كيف تنجح ونحن موجودون، ما قلّة الاحترام هذه؟!

وللأمتحان قواعد وأصول، إذا دخلت على المريض من جانبه الأيسر، قد تتعرَّض للطرد من الإمتحان، أو يقضمون من درجاتك النصف، وإذا تسآئلت عن السبب؟ لا يعلم أحد، أظن أنّه حتّى لا يفحص معك الشيطان.

ومن أعراف الإمتحان أيضًا، أنَّك لو أخطأت في الفحص، لا ينبّهك الأستاذ المُمتحن عن شيء، يترُكك عَمِهًا في سهوتك، لكي يجمع لك أكبر قدر ممكن من الدرجات المهدورة.

لهذا هو اختبار أعصاب، أنت تُفكِّر بكل شيء يجري حول المريض بدلًا من التفكير بالمريض، حينما تدخل ردهة الإمتحان، تُصاب بفقدان الذاكرة، وكل الذي يجري هو تفعيل "وضع الردّ التلقائي" كل إجابة ستُجيبها ستكون من دون تفكير. قلتُ لنفسي لربع ساعة قبل الدخول للردهة: ها أنا مُمسك بزجاجة التعقيم، سأدخل وأعقِّم، ليس الأمر صعبًا "ادخل.. سلّم.. عقم" لأجد نفسي بعد 3 دقائق يُخبرني المُمتحن: إهدئ! ألن تعقِّم يدك؟

أقصُّ عليكم ما حدث معي في الأوسكي الخميس الماضي، الذي عندما أكملتُه، شعرتُ انَّ الخميس عرفات، وأنَّ الجُمعة عيدها الأضحى.

جمعونا في قاعة من 10 طلّاب، كان مصيرنا أن نمتحن في الطابق الثامن، وصراحة كان حظًا جيدًا، أصدقاؤنا ينزفون كثيرًا من أستاذ متوحّش يتغذّى على درجات الطلّاب هناك في الطابق السادس. انتظرنا نصف ساعة، وحسبك أنِّي لم أهتم لمظهري أمام الفتيات اللواتي كُنَّ في جواري، فكنتُ كالمخبول يمسك المعقّم وأكرّر "ادخل .. سلم.. عقّم"

عرفتُ أنَّ الذي سيمتحننا هو أستاذ المفاصل في المرحلة الخامسة، ومعه أستاذ آخر لا أعرفه، لم نكن ندري تصرّفاتهم وطباعهم، تذكّرتُ في اللحظات الأخيرة انَّ هذا الأستاذ هو والد زميلة لنا في المرحلة، قلتُ لنفسي: هل سأقول له سلّملي على فُلانة؟ هل سأقول له بالله عليك اعتبرني فلانة بنتك ونجّحني! ثم قلتُ لنفسي، لو كنتُ بدلًا عنه ووجدتُ طالبًا يذكر اسم ابنتي على لسانه لنقصتُ من درجته، أتتفكَّه أمام طبيب المفاصل؟! فتخلّيتُ عن الفكرة.

ٌقدم طبيب المفاصل وصاح بصوت مهيب: أريد أوَّل الحمزيين ليمتحنا، فذهبتُ أنا وصديقي، وقد أدخلوه أولًا، وقال لي الطبيب انتظر مكانك ريثما ننتهي منه.

تخالني حين وقفتُ أمام الردهة فؤاد شاهٍ عليها العيد قد دخل، انتظرتُ أن تنتهي جلسة عذاب صاحبي فأدخل مكانه، انتظرتُ كثيرًا وطال تعذيب صاحبي، كنتُ أسترق الرؤية بعد كل بضعة دقائق، فأجد الأستاذين فوق راسه، وهو بمنظر متوجِّل كما لو أنّ على راسه الطير وهو في حضرة الملوك.

قدم إليَّ من الردهة مرافق المريض وقال

-أنا أسمع ما يمتحنونه به، إنّهم يمتحنونه على المريض المسكين جواد، كلّ الأستاذة تمتحن الطلاب على جواد صاحب البطن المنفوخة.

-تسمع؟!! أخبرني بالله عليك! أريدُ أنّ أعدَّ ذهني لما يختبرونه به.

-المشكلة أنِّي لا أفهم ما يقال! كل الكلام اجنبي.

عرفتُ حينها أنِّي أضيع وقتي معه، عُدتُ إلى زجاجة تعقيمي وردّدتُ: "ادخل.. سلِّم .. عقِّم"

وجاءت بعد قليل سكرة الحق، طلبني الأستاذ، فدخلتُ ووجدتُ حمزة الآخر مُسندًا إلى سرير مريض فارغ، وهو فاقد الحيلة مُسترخي القوى، ويلي عليك يا رجل! ماذا صنعوا بك؟! أتراني -بعد أن أنتهي- أُسند على سرير مثلك أم أُرفَع على نعش؟!

دخلتُ فأغبرَّت الدنيا حتّى إذا ما انجلت غبرتها بعد دقائق، عادَت لي الذاكرة، تذكرتُ أنِّي أجبتُ الأسئلة عن المسكين جواد بشكل صحيح ومُبهر، أمّا ما اختبروني به على مريض مُدخِّن فلم يجرِ بشكل جيّد. فقد طُلِب منِّي أن أسمع صدره، ولم أستطع تفريق الأصوات التي في صدره وظننتها طبيعية. اتضَّح أنّه مدخِّن طويل، وهو طويل الزفرة، والأمر يُسمع بفارق يقلّ عن ربع ثانية عن المريض الطبيعي.

قلتُ لهم كلّ صوت في صدره طبيعي، فأجابوني بالنفي، وقصّوا عليَّ ما عنده، وهناك شعرتُ كمقاتل طُعن ولا مجال في نجاته من كتيبة هبَّت نحوه، لكنَّهما رأوا احباطي، وكانا رحيمين بي، وشجّعاني.

أحبُّ من يتصرّف برحمة عند القُدرة، شعرتُ أنِّي مأسور لديهما، وقد أحسنا أصول الأسر، لم يُثخنا جراحي، بل شجّعاني بعبارات تعني أنِّي كنتُ جيدًا في الفحص، ولن يؤثَّر ذلك الخطأ على حكمها، ثمَّ سألاني بعض الأسئلة السهلة التي ترفعُ من درجتي، فخرجتُ أدعو لهما بالرحمة، وبفكِّ الكُربات إذ هوّنوا على كُرباتي.

أسترقَّ صديقي النظر في ورقة الأسماء، ووجد أنّهم وضعوا لي -بسخاء وكرم- درجة 90 من 100، وهذه لو أُعيدَت إلى 4 درجات كما هو عليها المعدَّل التراكمي، لأصبحت 3.5 من 4 وهي نتيجة مقبولة عندي.

ماذا تعلمتُ من الأوسكي؟

لعلِّي خرجتُ بدروس من أمتحان يبقى معي في ذاكرتي طويلًا، وأحاول تعميم ما في هذه الدروس لتنطبق على جميع الناس، لا طلّاب الأوسكي فقط.

الهالة الجيدة مفيدة

حينما ساعداني الأستاذان، كانا لعلمهما بأنِّي طالب جيّد، كيف عرفا ذلك وأنا أخطأتُ الفحص؟ تذكرتُ انِّي حينما كنتُ أمتحن على المريض الأول، أجبتُ الأسئلة بانجليزية طليقة، وحتّى أخذتُ بالتفلسف حينما سنح لي الموقف: لجواد أوشام متعدّدة على ذراعه، يبدو أنّه يُكثر من استخدام الأبر، التي هي عامل خطورة في التهاب الكبد الفايروسي سي، قد يكون هذا مؤشِّرًا مهمًا للبحث عنه خصوصًا مع حالته وما في بطنه من سوائل تُشير لالتهاب كبد مزمن.

لم أكن قد رأيت جوادًا للمرّة الأولى، فقد زرته قبل الإمتحان بيوم، كما زرت جميع مرضى ذلك الطابق فألقي عليهم نظرة تُساعدني في بناء هذه الطلاقة في الامتحان.

تقبّل النتيجة

كتبتُ في هذا الموضوع قبل شهر بالضبط، وأظنّه أكثر ما ساعدني في خوض أيّام التحضير العصيبة للإمتحان.

عندي امتحان اوسكي بعد شهر من الآن، وهو عبارة عن أمتحان سريري مع المرضى، وفي نفس الوقت تخضع لأستجواب المجرمين من قبل الأساتذة المشرفين، وهو من أصعب الامتحانات. وعليَّ أن أشرع في التحضير له من الآن إن كنتُ أريد نتيجة جيّدة، كلما حاولت اقتطاع جزء من وقتي لدراسة هذا الأمتحان، أتهرّب وأدخل في دوّامات من التسويف والتعطيل.
حينما جلستُ أفكّر في السبب، وجدتُ أنِّي أخشى من هذا الامتحان حقًا، إنّه يجعلني أنزف الكثير من الدرجات، ويودي عادة بمجهود سنة كاملة من التقادير الجيّدة.
في هذا المثال، إذا أردتُ أن لا أُماطل عن دراسة هذا الامتحان، يجب أن أُلقي بعض للنور عن هذا الظلام، عن تخوّفي من درجة الامتحان.
الطريقة تبدأ من تقبّل الواقع، نعم هناك احتمالية أن أفشل في هذا الأمتحان إن لم أخضع للاعداد الجيّد لمدّة شهر، نعم هناك احتمالية أن أفقد الكثير من الدرجات، أتعلثم أو أمر بيوم سيّء أنسى فيه ما أعددته لفحص المرضى.
هل هي نهاية العالم؟ سأخسر بعض الدرجات، قد ينزل تقديري بعض الشيء، لكنّه ليس الأكثر سوءًا في هذه الدنيا، أعتقد سأنسى تأثير خوضي لامتحان سيء بعد يومين أو ثلاثة.
بشكل عام هذا مثال متطرّف، قد لا تكون اجابتي بهذا السوء، نميل أحيانا للمبالغة في مخاوفنا، فهناك احتمالية أن يكون هذا الواقع "احتمالًا" أصلًا.
والآن، ماذا يُمكنني أن أفعل لتجنّب شيء من هذا الواقه المُحتمل؟ ماذا يُمكنني أن أفعل لتقليل ولو نسبة من حدوث آثاره السيئة؟
هنا تُقطع الحبال، هنا تُفكُّ العقد.
هذه الطريقة حسب تجربتي هي الأساس لمجابهة أي نوع من التسويف الذي يتغذّى على مخاوفنا، هذه المخاوف تبدو كما لو أنّها مناطق مُظلمة في عقولنا.
هذه المناطق المظلمة تُعكّر سير طاقة انجاز المهام من خلالها، لأنّ العقل لا يسمح بالنظر اليها أو إنارتها، ويتخيّل في هذه الظلمة وحوشًا وأفاعي وعقارب.
الفكرة أن نُنير هذه المناطق المظلمة، وبالتأكيد لن يكون الموجود فيها يُعجبنا تمامًا، لكنّه أهون من تخيّل الوحوش الخيالية في هذا الظلام.