كنت أُماشي صديقاً على كورنيش البحر وتنهدت وقلت: أين جمال البحر وأفق قبة السماء تعانق مياهه على مد البصر وقت الغروب البديع؟ أين حُمرة الشفق من تلك الكافيهات العالية التي تحجب الرؤية؟ أين الجمال؟!

سَخِر من قولي: خل الجمال لك. الكافيهات أنفع؛ فهي تّشبع البطون وتملأ الجيوب، فماذا ينفعهم جمالك أنت؟

ابتسمت من قوله وقلت: أراك صائباً؛ فالجمال ومعرفة الجمال والتغني به لن يُشبعهم من جوع ولن يكسوهم من عُري. ولكن هل يجب أن نعرف الجمال والحق لأنهما فقط نافعان في حساب البطون والجيوب أم نعرفهما لذاتهما؟ فنحن نُحب أن نعرف الأبطال والشهداء وننشد الحق لأجل الحق ولا نطلب من ورائه نفعاً. رماني صديقي بنظرة استغراب هازئة وكأنني من عالم آخر!

قضينا نزهتنا وسلك كلُ طريقه واستدعت ذاكرتي قول برتراند راسل في كتابه مستقبل العلوم The Scientific Outlook: في كل صور الحب، ننشد معرفة المحبوب لا للسيطرة عليه والانتفاع به بل لأجل نشوة التأمل المستمدة من معرفته. بدأت الرغبة في المعرفة عند الإنسان الأول لأجل معرفة ذات المحبوب. فقد راعته النجوم والكواكب والشموس ومظاهر الكون بجمالها فأحبها فراح يلتمس معرفتها ويتقرب منها ليتأمل فيها منشداً الشعر معلنا عن حبه، بالضبط كما تفعل أنت تجاه حبيبتك الجميلة فلا يهمك سوى قربك منها والتأمل فيها وكفى. ونظراً لتعمق الحب في نفوس بني آدم، فإنهم أرادوا أن يتقربوا أكثر من معشوقهم، فأعملوا الفكر في الكون ومن هنا نشأت الفلسفة ثم نشأ العلم؛ فأول دوافع المعرفة كان التأمل في ذات المحبوب. ثم ما لبث أن تحول ذلك الدافع إلى التسلط والانتفاع بموضوع المعرفة (المحبوب).

 يتابع راسل: لذا بدأ حُب المعرفة تأملياً ثم انتهى تسلطياً نفعياً. والذي يمثل النزعة الأولى الشعراء والفلاسفة، أما الذي يمثل النزعة النفعية فهي الفلسفة البرجماتية وفحواها أن معرفتك بالشيء تكون صادقة بقدر ما تمكنك من استعماله والانتفاع به والسيطرة عليه والتصرف فيه لصالحك.

 إذن فمقياس صدق المعرفة عند البراجماتيين هو مدى تمكينك من الانتفاع بها؛ وعلى ذلك فمعرفة الفيلسوف ومعرفة الشاعر ومعرفة الصوفي غير صادقة وعديمة الجدوى! قلت في نفسي: وماذا كان سيقول الشاعر القديم في البرجماتية وهو يعلنها صريحة:

يا رب أبق الذي أبقيت من بصري     حتى أرى حسن ما أبدعت في الصور

في كل شيء جمال حين تنظره       حتى الدياجي بها ما شئت من حور

يكفيك من رؤية الأشياء رؤيتها     ولو نظرت إلى أفعى على حجر؟! 

ثم سخرت نفسي من البرجماتية التي أوسعت الطبيعة تحكما وانتفاعا منها حتى ثارت الطبيعة ضدها في صور لعنة التغير المناخي من جفاف أنهار أوروبا والصين وفيضانات باكستان وغيرها!

والآن يا أصدقاء: هل تؤيدون المعرفة للمعرفة أم الفلسفة البرجماتية النفعية العملية؟