تقدّم لنا الميثولوجيا أسطورةً إغريقية لشاب فائق الجمال يدعى “نركيسوس”، حيث رأى هذا الشاب الوسيم وهو يمشي بجانب بحيرة انعكاسَ صورته على سطح الماء، فأُعجِبَ أيما إعجاب بشكله، ومن شدّة انبهاره بقي ينظر إلى خياله لدرجة أنّه انعزل عن كل من كان حوله، وانتهى به الأمرُ أن قضى نحبه غرقًا وهو يحاول معانقة السراب. اختفى نركيسوس في قاع البحيرة، وظهرت مكانه زهرةٌ جميلة تسمّى زهرة النرجس (Narcissus)، ومنذ ذلك الحين أصبحت زهرة النرجس تنمو على ضفاف البحيرات والأغادير. الذي يعرف زهرة النرجس يعلم أنها تنمو في الصباح، ثم سرعان ما تذبل. أشياءُ كثيرة تنمو، لكنّها سرعان ما تذبل، كالزيف الذي سرعان ما يختفي مع الأيام، لأنّه ما من أحد أو شيء يستطيع الاستمرار بكونه أصدق من الواقع، إلى الأبد.

وقد اتخذ “سيجموند فرويد” هذه القصة موضوعًا لإحدى نظريّاته في التحليل النفسي، وخلصَ فيها إلى ما سمّاه بـ”العقدة النرجسية”. وتوصل من خلال تحليله إلى أن الإعجاب بالذات ليس بالضرورة مرضًا، بل هو شيء طبيعي. وذهب إلى أن وجود النرجسية “الصحية” مطلوب عند أي إنسان، ومن الضروري إشباع هذا الشعور خلال مرحلة الطفولة، والتي تعدّ مرحلة أساسيَّة من مراحل نمو الطفل نفسيًا، وبناء شخصيّته التي تميّزه عندما يكبر.

سبب تكون اضطراب النرجسية:

ولكن نتيجة لعدم إشباع هذا الشعور في الطفولة، فهو يتطور بشكلٍ سلبيّ، ويتضخم مع التقدم في العمر، ليصبح عقدةً نرجسية (اضطرابًا). يقول “تينيسون لي" ، ومستشار بريطاني متخصص في اضطراب الشخصية النرجسية:

“تُصنّف حالة الشخص على أنها اضطراب عندما يسبّب اهتمامه المفرط بنفسه نوعًا من المعاناة أو المصاعب للمحيطين به“.

إذًا، النرجسية هي حالة نفسية مرضية يتملّك صاحبَها النرجسيّ شعورٌ مبالَغٌ فيه بالأهمية نحو ذاته، ووراء التعظيم المبالغ فيه للذات يكون لديه شعور دفين بالدونية يسكن نفسه. وما التصرفات النرجسية التي تتسبّب في الإيذاء النفسي أو العاطفي لمن يتعامل مع النرجسي -الذي يُصنّف كضحية- سوى وسيلة دفاع غير واعية ضد هذا الشعور.

يُتقِن النرجسي أساليبَ التلاعب، كأن يتقمّص أدوارًا عاطفية تتناسب مع كل ضحية، بل ويمكنه أن يرسِمَ خططًا ليرتبط بعلاقاتٍ مع الناس؛ حتّى يعوّض الخواء الذي يشعر به، ويغذّي شعورَه بالعظمة.

العلاقات الإنسانية بالنسبة إليه هي مجرد محاولات للشعور بالقدرة على الإمساك بزمام السيطرة، وتتلخّص في العلاقات القصيرة الباردة التي لا تجبره على أيّ شكلٍ من أشكال الالتزام تجاه الآخرين، وتمنحه فقط مجرّد مساحة لكي يتنفس.

عند التعامل مع الآخر، يستعمل النرجسي سلوكًا نمطيًا يتمثّل في ثلاث مراحل متتالية:

1- مرحلة المثالية (Idealization): هي مرحلة يهدف فيها الشخص النرجسي إلى السيطرة على تفكير الآخر، وذلك بإبداء أحسن الجوانب في شخصيته، من لطفٍ واهتمام ومحبّة.

2- مرحلة التقليل من الشأن (Devaluation): ما إن يشعر النرجسي أنه استحوَذَ على نفسية الشخص، حتى تبدأ صفاته الحقيقية في الانكشاف، وكأنّه يقولُ في نفسه: “الآن أنت أسيري، أفكارك متمحورة حول إرضائي”. يمارس النرجسي خلال هذه المرحلة لعبة السم في العسل، وذلك بالسخرية من شريكه بطريقةٍ عفويةٍ، ظاهرها مزح، وباطنها إيذاء نفسي. وعادة ما يحدث هذا التهكُّم في الأماكن العامة وأمام الناس.

3- مرحلة التخلي (Discarding): في هذه المرحلة، يتخلّى النرجسيون عن علاقاتِهم، ويبدَؤون في البحث عن إمدادٍ آخر، وغالبًا ما يكون هناك أشخاص آخرون يحاولون استمالتهم كضحايا جدد؛ حتّى يروا في أعينهم نظرات الانبهار والإعجاب.

هذا ما يجعلنا نتساءل، هل يمكن مداواة الداء بداء أعظم منه؟

وقد تحتم الروابط الأسرية أو المهنية وجود النرجسي في حياتك، فقد يكون أبًا، أو أخًا، أو زوجًا، أو رئيسًا في العمل، وقد يكون صديقًا. ولكن يحدث أن يبحث النرجسي خصيصًا عن أشخاصٍ معيّنين ليجعلَ منهم مصدرًا لإمداده بالشعور بأهميته.

ولذا، كيف يمكننا معالجة اضطراب الشخصية النرجسية وكيف تتعامل معهم في حياتك؟