«هُم لا يعرفُون ما معنى أن تكُونَ شخصًا يتجاوز كلّ شيء وهو صامت، يتجاوز ويتجاوز بكلّ هدوء، حتّى يعتقد من يراك أنّك لم تتعثّر يومًا» كنتُ دائما أبدأ أموري وأنهيها وأمام ناظريّ تُرسم هذه الكلمات للراحل أحمد خالد توفيق، تُرسم بكلّ بهاءٍ وزركشة عجيبة، لا أعلم إنْ كان يجدر بيَ أن أشير إلى أنّه يوجد بونٌ شاسع، بين أن تتعمّق في قول وتعيشه في لحظاتٍ كثيرة، وبين أن تمرّ عليه كأنّك تتصفّح هاتفك، بلا هدف مسبّق. إذا استثنينا معًا تلك المواضع التي يجبُ أن ننفجر فيها - وهي قليلة للأمانة - أن ننفجر بكلّ أرواحنا وجوارحنا، صوتًا وصورة، فإنّ علينا، أو على الإنسان العاقل (أشكّ في عقلانيّة أغلبيّة الناس، وأنا واحدٌ منهم) أن يصمتَ، يصمتَ كثيرًا، ويعيشَ في صمتِه، ليفهم على الأقلّ جهله، وجهل الثرثارين المحيطين بهِ. كنتُ أعرفُ شخصًا قليلَ الكلام، لكنّه منطلق التفكير، منشغل البال، لا ينفكّ يرى ويدوّر في كلّ شيئٍ، حتّى يخرج بكلمة واحدة، لكنّني كنتُ أتعجّب من تلك الكلمة الموزونة والمحبوكة، وكأنّها غُسِّلت بمياه الحكمة، وخرجتْ منطلقة بأجنحة حرّة تواجه العقول الأخرى. رأيتُه ذات مرّة يندلق كماءٍ جارف في حديثٍ شيّقٍ لا يتوقّف أبدًا عن إخراج أفكاره، وكأنّها كانت تنازعه أيّاما (أو أشهُرًا)، وتحاول الهرب من جمجمته إلى جماجم الآخرين، حتّى أنّني بالكاد لم أقدر على توقيفه، بسبب استرساله الشديد أو بسبب عدم فهمي لما يقول كلّيّة. اكتشفتُ بعد أن صاحبته لمدّة غير قصيرة، أنّه لا يتحدّث في شيئٍ لا يعرفه، لا تفاديًا للخطأ، فهو القائل لي: «الإنسان كتلة لحميّة من الأخطاء»، فهو إذ لم يقرأ بشكلٍ معمّق في موضوع ما، ولم ينوّع مصادر معلوماته وقوّتها، يخرج بنتيجةِ: «عدمِ المعرفة»، فيصمتُ منتظرًا شيئًا جديدًا يأتي في غمرة الحديث، أو محلّلا قولا ما قد ينفعه في إشكالاته. ثمّ أخبرني يومًا أنّه يكتفي بمحادثة صمته، وتعجّبتُ من طرحه، إذ كيف للصمتِ أن يتحدّث؟ فينصت ويردّ؟ فشرح لي أنّ الصمت يظهر من الخارج فقط، وأنّ الحديث الحقيقيّ يكون في الداخل، وقال أيضًا أنّ الكلامَ الذي يُقيمه المرء في عقله، والذي يظهر على أنّه صمتٌ للآخرين، يكون أنفعَ لفهم النفس، ومعرفة الصحيح من الخاطئ في الأفعال والأقوال (ثمّ صرّح باستثناءات لا أذكرها للأسف)، ثمّ لا أعرف كيف نطق على سهو: «يُوجد تفكيرٌ قبل التفكير، قبل القول أو الفعل» وصمت صمتا مُطبِقًا، ولم يزِد. استنتجتُ مع كرّ الأيّام أنّ حديثه ينقسم إلى ثلاثة: إسهابٌ غير متوقّف، إذا تحدّث عن شيئٍ يعرفه معرفة عميقة، أو قول غامضٌ لا يضيف بعده شيئًا، أو حديثُ صمتِه المعروف. مرّت سنواتُ معرفتي بهِ، وحدثتْ لهُ مشاكلٌ فكان يتجاوزها - مثل ما قال العرّاب تمامًا، عكسي، أو كما كنتُ أسعى - بصمتٍ خياليّ، كان ذلك الصمتُ (ربّما معه الهدوء) يُبهر الجميع، لكنّني كنتُ الوحيد (آمل ذلك) الذي يعرف أنّه لا يصمت، بل يتحدّث كثيرا ويُثرثِر، كنتْ أعرفُ أنّه لا يتجاوز بل يحارب، يفكّ التعقيدات، ويُخرج الحلول كما يُخرَج الجنين من بطن أمّه، بكلّ ذلك المخاض والألم، والدم، بشكلٍ فكريّ صامتٍ.

كنّا نسيرُ ذاتَ مرّة، في مساءٍ بهيّ مع غروبٍ أخّاذ، تحتَ خيوط المصابيح الذابلة، في شارعٍ يبدو كأنّه جرح ينثعب بالدم من بدنِ فريسة تحتضر، قال لي مبتسما وهو يودّعني: «يكتشفُ المرء في لحظاتٍ متفرّقة أنّه صغير، ويعتقد سذاجة أحيانا وهو يخاطب نفسه أنّه عظيم. يصلُ إلى تلك النقطة من البوح، بالشفاه أوِ القلم، فيتلعثم ويضطرب، وقتذاك يعلم أنّه كلّ شيئٍ ولا شيئ في ضربة واحدة، فيصمتُ، تاركًا نفسه تعجّ بالأفكار التي لم يقُلها» نظرتُ إليه بإعجابٍ صريح، رأيته صامتا كدأبه، أكملتُ مسيري وحدي والشمس تُنهِي قُبُلاتها الأخيرة. ومُذْ ذلك الحين وأنا لا زلتُ أبحثُ عنهُ، أجده وأفقده.