اللغةُ هي الإنسان… هي الوَطنُ… وهي ثمَرة العقل وغِراس البَيَان، ولِأنَّ الإنسان شَغوفٌ بالكَشْفِ عن بدايات الأشياء وأصْلِها كانتِ اللُّغةُ أبرزَ ما يَسْتَوقِفُه، وفي الكشف عن أساسِها سبيلٌ إلى إضاءة دربِ تطوُّرِها ومعرفة مواضع إمكانيَّة خدمتِها والاجتهادِ فيها.

نشأت اللهجات العربية نشوءًا طبيعيًا باتّساع الرقعة الجغرافية، فالقبائل العربية العدنانية والقحطانية توزعت بين شمال الجزيرة وجنوبها، ولا بد للمكان من سلطة يفرضها على قاطنيه، ولا بدّ للبُعد من آثارٍ تُجليها اللغة في اللسان، ومع مرور الزمن صار للبلاد العربية أقاليم لغوية مختلفة، فصار لدينا لهجة أهل الشّام، واللهجة الخليجية، والمصرية، والمغربية، والعراقية، وتتميز كلّ لهجة من الأخرى بتبديل حرف مكان آخر، أو إضافة حرف زائد، أو استعمال مجازي مختلف لِلَّفْظِ نفسه، وغير ذلك مما ليس بقليل.

ومع تباعد الأسفار اللغوية غدا للغة العربية مستويان؛ المستوى العالي المتمثل باللغة العربية الفصيحة، وهو المستوى المتعارف عليه في الكتابة والتعامل الرسّمي، والمستوى المحكي المتداول بين الناس والمنقسم على نفسه إلى لهجات كثيرة. وذهب بعض الدارسين اللغويين إلى القول بوجود مستوى وسطي مَحْكيّ بين الفُصحى والعامية، ولعلهم بذلك يقصدون الفصحى التي اعتمدها شعراء الجاهلية في كثير من أشعارهم، تلك التي يكاد القارئ اليوم لا يفهم منها شيئًا، وسمّوها اللغة الفصيحة التي تعتمد السلاسة والوضوح في اختيار ألفاظها، ولعلّ أقرب مثال عليها ما استخدمه شعراء العصر الحديث من ألفاظ رشيقة وقريبة من العامّة، مثل أحمد شوقي ومن عاصره أو قَارَبَه.

لكن هل يعني ذلك أن اللهجات العامية لغات؟!