وقع أبا فراس الحمداني ورفقة من أصحابه في حصارٍ أثناء احدى المعارك مع الروم، ولم يكن بأمكانه فكّ هذا الحصار إلّا بطريقين، أن يفرَّ من المعركة، أو يستسلم.

وقال أصيحابي الفرار أو الردى؟ *** فقلت هما أمران أحلاهما مرُّ
ولكنني امضي لما لا يعيبني *** وحسبك من أمرين خيرهما الأسر

ولكنني أمضي إلى ما لا يُعيبني

فضَّل أبو فراس الاستسلام للأعداء والأسر، على أن يُقال أنّه فرَّ من المعركة، وهذا لأنّه وُضع أمام خيارين، ولم يكن بامكانه أن يهرب من الأسر بطريقة يعتقدها شريفة، فلو قيل له، يا أبا فراس، هلّا عُدنا من هذا الطريق الضيِّق، إلى سيف الدولة الحمداني لنسأله عن المَدد، ثمَّ نعود للروم مرّة أخرى، ونعيد لهمّ الصاع، لربما تغيَّر الحال شيئًا. لكنّه وضع أمام كلمة فرار، وهذه الكلمة ثقيلة على مسمعه.

كنتُ أقرأ لسكوت الكسندر مقالًا، وهو من العقول الأجنبية اللامعة، يتحدّث فيه عن أسباب خسارتنا للنقاشات، ويعزو مُعظم هذه الأسباب إلى طرق ننهجها نحن في النقاش، نحن بحسب سكوت نصوب الرصاصات لأرجلنا في أغلب النقاشات التي خسرناها.

سكوت كان يتحدَّث عن النقاشات التي نملك الكعب الأعلى فيها، ويقول أنَّه كلما طال الوقت الذي نُعطيه للنقاش، كنّا أقرب لخسارته، حتّى وإن كانت حُججنا صحيحة، فما الذي نفعله بشكل خاطئ؟

الخطأ -بحسب سكوت- هو أنّنا لا نُعطي مساحة ليهرب فيها الذي أمامنا، ونحصره بخيارين دائمًا، فأمّا أن يكون فائزًا، أو يكون شخصًا يتحمَّل كل الشرّ في العالم.

ترك مساحة الهرب يُسمّيها الكاتب بالفنّ الأسود لأدارة النقاشات، أو بتعبير عامّي أن تكون لطيفا، فلو كُنتَ تٌناقش شخصًا ما في السياسة، وكنت تقول له أنَّ السياسات التي يؤمن بها سبّبت الدمار والخراب لهذا العالم، وإنّه من أحد أولئك الأشرار لأنّه يؤمن بهذه السياسات، فماذا تتوقّع منه أن يقول؟ سيبقى يقاوم لكي يُثبت أنّ ما يؤمن به صحيح، ويبقى يقاتل ليُثبت أنَّه ليس شخصًا شريرًا بالفطرة.

يجب أن تترك له مساحة ليفرّ منها، من دون أن يُسمّى ذلك فرارًا، ومن ذلك أن تبيّن له أنَّ الحياة يُمكن أن تُعاش من دون السياسات التي يؤمن بها، وتقصّ عليه من تجارب دول أخرى تُطبّق سياسات مختلفة ولا زالت تنمو وتتطوَّر. أنت بذلك تبقي لهم مجالًا ليكونوا خاطئين فقط، لا خاطئين واشرارًا.

هل عندكم أمثلة أخرى لنقاشات يُترك فيها للمقابل سبيلًا للهرب؟