"نشر مقالنا هذا لأول مرّة على موقع جوّك"

لعلّ الانتحار من أبشع الأخبار السيئة التي قد يسمعها شخص ما في حياته، وعن نفسي، شهدتُ انتحار كثير من الناس الذين أعرفهم وقد شكّل ذلك في قلبي شبه فوبيا من سماع مزيد من أخبار الانتحار، خاصة وإن كان ذلك في أوساط المراهقين أو الشباب.

أوّل ما أتى إلى فم شخص كنتُ أخربه بانتحار شخص أعرفه توفي منذ يومين كان "سيذهب إلى النار لأنه قتل نفسه". لم أعد أشعر بالاستغراب من كل هذه التصريحات المجحفة في حق المنتحرين، وكل الناس للأسف يفكّرون بنفس الطريقة، فعوض أن يسألوا لماذا أقدم على قتل نفسه، ويتكتّلوا ليقاوموا العلّة حتى لا تصبح في أشخاص آخرين ثم لا يُجبرون هم أنفسهم على لعنهم بعد انتحارهم، يجد أولئك الناس (العربي غالبا) يجدون اللعن وإطلاق الأحكام الجارحة أسهل بكثير من المساعدة والوقاية قبل أن تقع الفأس بالرأس.

في هذا المقال ثلاثة أسباب للانتحار الأكثر شيوعا وكيفية حماية الشخص قبل أن يقدم على الانتحار.

1. الانتحار بسبب الحروب

منذ اندلاع الثورات العربيّة وإلى جانب مئات الآلاف من المقتولين البائسين، يوجد آخرون كثر يموتون في صمت مطبق، وربما وبحكم الحروب الطويلة الأمد، قد يفقد الإنسان كثيرا من حسّه بالتعاطف عند رؤية الموت، ويصل آخرون إلى حسد أولئك الذين حسب زعمهم "لديهم جرأة" لقتل أنفسهم.

تقول الدكتورة أليساندرا فلايشمان عالمة في إدارة الصحّة النفسيّة في منظمة الصحّة العالميّة أن معدّل الانتحار يرتفع غالبا عندما يضطرّ الناس إلى الهجرة أو النزوح أو في الأزمات الاقتصاديّة، وقالت أيضا أن مقابل كل شخص أقدم على الانتحار، يوجد 20 آخرون أقدموا على محاولات سابقة.

وأين كانت الحرب، حلّ الدمار الفزيائي والعقلي وكذلك سوء التغذية والجهل والاعتقال التعسفي والمحاكمات الجائرة. فقد ذكر الكاتب تيري كوبرز في كتابه " الجنون في غياهب السجون" أن معدّل الانتحار في السجون في أمريكا يعدّ ضعف معدّل الانتحار بين العامة، وتسعة أضعاف عندما يسجن الفرد في زنزانة منفردة، في تقصير كبير بالصحّة العقليّة للسجناء، فما بالك بسجناء حرب أو أسرى، أو حتى أطفال أو شباب ومراهقون قبضوا عليهم لأنهم يكتبون كلمات على الجدران، أو يصرخون يطلبون حقوقهم...ثم يجدون أنفسهم عرضة للتنكيل والاغتصاب حتى يقدموا على الانتحار كرها.

الحروب من أبشع ما أنتجته البشريّة، والعالم العربي بات أفضل بيئة لها، وبين هذا وذاك، يبقى انتحار المنتحرين من إملاق ويأس، والموتى والمفقودين بيد من أشعل تلك النار.

2. الانتحار بسبب المدرسة المتخلّفة والأسرة المحكمة التفكك

المدارس العربيّة بكلّ برامجها التعليميّة يمكن تصنيفها في خانة البدائيّة بامتياز. فأي مدرسة لا تلعب دورها الرئيسي لا يجب لها أن تكون من الأساس، والمدارس العربيّة هدّامة وليست ببنّائة.

ليس دور المدرسة تعليم الحساب والهندسة والجغرافيا وعذاب القبر وحشو رؤوس الأطفال بهذه الأشياء قبل أن تبني من الأساس شخصا يفهم معنى المكان الذي أخرِج إليه وسُحب نحوه غصبا وابتعد بذلك عن حضن أمّه، فلا يعرف ما الغرض من الدراسة، ولماذا يُدرّس أمورا بعينها وتُستثنى أخرى يسمّيها ناسه في الشوارع همسا بـ "الطابوهات".

التحديث الذي يمسّ البرامج التعليميّة في المؤسسات التربويّة لا يعدّ أكثر من تنقيح خفيف وتصحيح لبعض الأخطاء الإملائيّة التي لا يجب أن تكون من الأساس. وفي مادة العلوم، يجد الطفل فجوة في رأسه، فهو يسمع جماع والديه في الليل ولا يعرف ما هو، ويجد نفسه يستكشف رغبته الجنسيّة ومظاهرها ولا يفقه فيها شيئا، ويخاف من عذاب الإله الذي هو الشيء الوحيد الذي يُحشر في رأسه (دون ذكر الأسباب بإقناع) عندما يحتلم أوّل مرّة أو عند أوّل دورة شهريّة.

أقصى ما قد يعلّمه الآباء العرب للأطفال عن الحياة الجنسيّة هي الأم أو الأخت التي تعلّم ابنتها أو أختها ارتداء واقيات خاصة عند اقتراب دورتها لتجنّب الإحراج لا أكثر ولا أقل.

والحديث هنا محصور عن الثقافة الجنسيّة بسبب أنها واحدة من ثلاث طابوهات مشهورة في العالم العربي "الجنس، السياسة والدين". فلا تعمّق في مسائل دينيّة ولا حق لأي شخص بأن يسأل خارج الصندوق، لا يحقّ للمرء أن يتحدث عن السياسة الفاسدة فيأتيه زوّار الفجر، ولا يجب التحدث بالتأكيد عن الجنس فهو أمر سيّء.

كل هذه الأفكار الفاشلة، الفاسدة، الهدّامة، والتي غذّيت بها عقول وعقول من أجيال كثيرة تربّي أجيال أكثر، بنت منظموه أسريّة محكمة التفكك! أسر لا يتحدّث أفرادها عن أمور أهم من حضّري الغداء أو نظّفي المنزل أو لماذا الطعام مالح ولماذا الحليب أبيض.

يجد الطفل نفسه مرغما على التقوقع على أفكاره الخاصة في محاولة منفردة لمعالجتها لوحده، وغالبا ما تكون تلك بمشاكل نفسيّة مؤذية بقسوة، يؤدّي الجلوس عليها إلى التعفن وتوليد كوابيس وخوف من أمور وهميّة ناتجة عن غياب الأسرة المحبّة التي يجب أن تسمع وتتكلم وتراعي وتفهم وتُفهِم. لكن، سلسلة الفشل الاجتماعي العربي جعل من ذلك الأب ومن تلك الأم اللّذان وجب أن يكونا سندا، جعلهما قبل الطفل بكثير ضحيّتان نموذجيتان لغياب التربية المتكاملة في المدرسة العربيّة وفي الأسرة الأولى التي قد تنتجها هذه المدرسة. وإن تعمّق المرء أكثر، فقد يجد قدرا ضئيلا من الشعور بالانتقام من الحياة عندما يرى الوالد الفاشل ولده يفشل أمامه وهو لا يساعده، ليس لأنه لا يقدر، بل عملا بـ"لستَ أكثر براءة ممّا كنتُ عليه في صغري، لكنني قاسيتُ وأنت ستأخذ حقّك من القساوة".

بعد الحرب الأهليّة الجزائريّة التي امتدّت لعشر سنين حتى نهاية التسعينيات، خرجت منها الجزائر مدمّرة نفسيّا بصورة بشعة، حيث فقد الكثير عقولهم ودخلوا المشافي بعد منظار الرعب التي كان الإرهاب ينشرها ليل نهار في كل مكان من الجزائر حتى في قلب العاصمة أين حدثت مجزرة بني مسّوس ومجزرة بن طلحة المروّعتين. ومع ذلك لم تقدم الدولة على تسطير أي برنامج اجتماعي كفيل بالاهتمام عقليّا بكل الأفراد الناجين وخاصة الأطفال منهم، ولن أستبعد انتحار الكثير بعد الحرب بسبب الصدمة النفسيّة المزمنة أين لا يجد الشخص المحطّم يد المساعدة فيمدّ بسبب إلى السماء ويقتل نفسه.

وقد قال الدكتور محمد حامق في مقال نشر على موقع جريدة جزائريّة، قال أن "60 بالمائة من الجزائريّين يعانون من الاكتئاب الحاد الآن، وأن أكثر من مليون جزائري يعانون من فصام في الشخصيّة". وكلّه نتيجة لغياب التكفّل العقلي بضحايا الحرب والذين انفسهم عاشوا بعد ذلك أحداث "لعروش" 2001، وفيضانات باب الواد في نفس السنة، وزلزال بومرداس الكارثي سنة 2003...ومع انعدام التوجيه النفسي والمعالجة النفسيّة للمرضى الصغار خاصة الذين على عاتقهم غدا بناء جيل جديد بلا عقد نفسيّة، أصبح أكثر من نصف السكان مصابون بالاكتئاب واليأس مع تردّي الأوضاع المعيشيّة والصحيّة، وإن كان هذا يحدث للجزائر في فترة وجيزة، فما بالك بلبنان الذي ذاق الويلات تلو الأخرى منذ 1975 حتى الآن، فلم يكد يخرج من نفق الحرب الأهليّة والمجازر التي لا تحصى والتي وقعت خلالها، حتى دخل في حرب مباشرة مع إسرائيل، ثم حدوث مجزرة صبرا وشاتيلا المروعتين، ثم انتقل إلى حروب داخليّة حملت أسماء كثيرة، ثم انهيار اقتصادي في التسعينات، ثم عودة إسرائيل عام 2006، ثم انفجار مرفأ بيروت، ثم انهيار اقتصادي آخر أشد من القديم بكثير. 

واليمن، وسوريا، والعراق الذي ظلّ ينزف منذ سقوط الحضارة البابليّة، وأفغانستان، ومعظم دول إفريقيا، ومسلمو بورما، وأرمن تركيا، ويهود أوروبا وقوميات كثيرة حول العالم.

الحلقة الغائبة هي المدرسة التي تعلّم كلّ شيء والتي على عاتقها إفهام الطفل البريء أن لا حرج في طرح الأسئلة ومعرفة ما يجهله، وإعطاء اسم لذلك الإحساس الذي ربما قد اعتراه يوما بسبب البؤس الشديد، أو اليأس الشديد الذي يحول دون الهروب، وجعله يناقش مخاوفه في حلقات مريحة مع أشخاص يشاركونه نفس المخاوف. فيبتعد عن فكرة الانتحار، وفي الغد، سيبني هذا الطفل عائلة تنتج أخرى حتى يبنوا جميعا مجتمعا أكثر صحيّة من أي وقت مضى.

3. الانتحار بسبب الميول الجنسي

لعلّ هذا السبب من أكثر أسباب الانتحار شيوعا في دول العالم الثالث، وقد أظهرت كثير من الدراسات والتقارير أن الطلّاب من مجتمع الميم يتعرّضون للتنمّر أكثر من المغايرين، وأن نسبة كبيرة منهم يعربون عن عدم شعورهم بالأمان، لا في المدرسة ولا في محيطهم.

يمكن للوضع أن يتأزّم أكثر في دول تقمع مجتمع الميم مثل الدول العربيّة، أين يلعنهم المجتمع في الصباح، ويغتصبونهم ثم يضربونهم في الليل مع تواطئ أجهزة الأمن، مثلما حدث في السودان عام 2020 أين قام جماعة من الهمّج بقتل مثليّين ضربا بالعصا وتصوير الفيديو ثم تحميله على النت والتفاخر بقتل النفس تفاخرا ليس بعده تفاخر. وفيديو آخر من الجزائر يظهر شابا يضرب رجلا كبيرا في السن على وجهه وبالركلات لأنه كان يمارس الجنس مع شخص آخر.

ما الذي يمكن للطفل أو الشاب من مجتمع الميم أن يشعر وهو يرى تلك المناظر والوعيد المستمر بالنار في ظل غياب الوالدين الذي فصّلنا فيه أعلاه؟. ليس هنالك إحصائيات عن انتحار المثليّين في العالم العربي، ولكن تلك التي في الدول التي تسمح لمجتمع الميم بحياة طبيعيّة مستحقّة كغيرهم، تظهر النتائج هناك أرقاما تتراوح بين المتوسطة والمعتبرة (ذكر الأرقام واستعمال هذه الكلمات يشعرني بالغثيان، لأن اختصار حياة شخص ما قتل نفسه لأنه شعر بالظلم والوحدة في كلمات وأرقام باردة والتركيز عليها دون التركيز على الأسباب وسبل حماية هؤلاء الأشخاص لأمر مخزٍ)، وهذا يرجع دائما إلى رهاب المثليّة الذي يودي بحياة الملايين مباشرة، ويدفع بآخرين إلى الانتحار تجنّبا للألم المتواصل من الرفض المزمن لبعض الناس اللذين يحبّونهم لحقيقتهم سواء. الوالدين أو الأقارب أو الأصدقاء والمحيط ككل أو غيرهم.

ليس يعدو منع موضوع المثليّة الجنسيّة في العالم الثالث سوى إنقاص آخر من قيمة شكل من أشكال الحياة المهمّة في المجتمع، الجميع بات يعرف أن المثليّة ليست بمرض وأنّ عليهم إعادة دراسة ما اعتادوا على تصديقه، بل الأكثر دقّة من ذلك، البدء في دراسة حقيقيّة لسبب قبول الابن والبنت المثلي والمثليّة والمزدوج الميول والعابر الجنسي من طرف أناس رفعوا شعار "أحبّ ابني كما هو وليس هنالك من قوّة تخبرني أن فلذة كبدي شخص سيّئ". ويكتشفوا حبّ الله وحبّ الابن المثلي في نفس القلب على حد سواء.

ذلك سيمنع الكثير من قتل أنفسهم. عكس ما حدث مع بوبي غريفيث عام 1983 أين قتل نفسه منتحرا بسبب أمّه المتعصّبة دينيّا والتي رفضت مثليّته رفضا قاطعا لأربع سنوات أفضت في النهاية إلى انتحاره، وإلى تحوّلها هي من هوموفوبيك إلى أكبر داعم للمثلين حول العالم، وقد قالت في إحدى خطاباتها "أؤمن أن الله كان سعيدا بقلب بوبي المحب والطيّب، في نظر الله المحبّة والطيبة هما كلّ ما يهمّ، جوهر الحياة". وقد ساعدت على انقاذ الكثير من الموت وفي كل مرّة تفرح لذلك أشدّ الفرح، وتشعر في قلبها بالمرارة المتواصلة بسبب فقدها لابنها والذي كان نتيجة لرفضها الحديث معه وفهمه وتقبّله.

في الأخير هناك بالطبع الكثير من الأسباب الأخرى التي تؤدّي إلى الانتحار وهي لا تحصى، كلّها تتشابه في سرقة روح جريحة ما في بقعة ما من العالم.

على المرء أن يتعلّم أن ينصت إلى الشخص المجروح، كلمة واحدة طييّبة قد تجعله يعدل عن الانتحار ويصبح شخصا آخر ناجحا في الحياة ويصبح أكثر امتنانا لكلّ لحظة يعيشها، وتجاهل ما قد يزهق روحا. وآخر ما سيتذكّره وهو يقتل نفسه.

"أجل، لقد خذلني كلّ من أعرف".

لا تجعل أحدا يصل إلى النقطة الحرجة أين قول فيها تلك الجملة بهمس فارغ من الإحساس، حتى ولو كنت صديقا لذلك الشخص على النت ولم يمضي ساعة على معرفتكما ببعض، كن أنت اليد التي يتمسّك بها كي لا يسقط عن الحافة، صدّقني سوف تشعر بالارتقاء وأنت تنقذ روحا من الموت. وسينشأ رابط خفي بين ابتسامتيكما، فكلما ابتسم، ستبتسم أنت أكثر.

معلومة أخيرة

توجد العديد من الخطوط الساخنة التي تعمل على مدار الساعة لتلقّي اتصالات الراغبين في الانتحار، وبالتأكيد الذين تراودهم الأفكار بالانتحار وهم أضعاف من يقدمون عليه، وعليه أكتب في النت خطوط ساخنة لمنع الانتحار وستحصل على العديد من الأرقام التي ومن كل قلبي أتمنى أن تساعد على إنقاذ الأرواح.

في حالة المثليّين ومجتمع الميم عموما، وإن خاف أحد من التحدث مع عائلته، فهناك تطبيقات على النت للتحدث مع أجانب بكل أريحيّة وسريّة.

أي شخص تشعرون بأن كلامه يزيد حالتكم سوءا فلتتوقفوا عن مخالطته حتى تتحسن حالتكم مع شخص آخر، وخاصة بعض الأطباء النفسانيّين الذين لا يستطيعون أن يفصلوا بين عملهم ودينهم، أولئك هم السم الزعاف لكلّ شخص مختلف يلجأ إليهم بغرض النجاة.

للتواصل مع الكاتب contactwriter@gmail.com

أو على البريد الخاص في الموقع.