عندما أعلنت موقفها المناهض للمتحولين جنسيا، احتار الآلاف من معجبي المؤلفة (ج ك رولنج): هل يقاطعون عملها الإبداعي (سلسلة روايات وأفلام عالم السحرة) أم يكتفون بمقاطعتها هي؟
وهي قضية خلافية مشهورة، أي التمييز بين الفنان وفنه.. وللبشر اتجاهات متعددة في التعامل معها.
فمنهم من يرى أن العمل الإبداعي لا ينفصل عن مبدعه، لأنه نتاج قريحته وقد وضع فيه أفكاره ونظرته للعالم. ومنهم من يرى أن الفنان "ميت"، أي أن للمتلقي الحق في تفسير العمل الفني حسب نظرته الخاصة، وأن تفسير المؤلف نفسه للعمل لا وزن له. مثال: لو أصر (ج ر ر تولكين) أن ملحمته ليست صورة مجازية عن صعود النازية في أوروبا، بينما أحس القارئ بتأثرها الواضح بتلك الأحداث التي عاصرت فترة تأليف العمل، فللقارئ أن يضرب برأي المؤلف عرض الحائط.. إذ ربما كان لدى المؤلف أسبابه الخاصة (الواعية أو النابعة من اللا-وعي) التي دعته للإنكار. وبناء على وجهة النظر هذه فإن العمل الفني يمكن فصله عن الفنان، ويمكن إعادة تفسيره بحيث يصبح موافقا لآراء القارئ السياسية والاجتماعية والدينية، بغض النظر عما أراده المؤلف.
بينما يرى البعض أن الأعمال الفنية ليست كلها على نفس المرتبة في التعبير عن توجهات الفنان، فربما يكون الرسام فاشيا نازيا وعنصريا في توجهاته السياسية لكن أغلب لوحاته موضوعها الطبيعة مثلا، وبالتالي لم تتأثر بآرائه السياسية. فروايات هاري بوتر تتكون من آلاف الصفحات، ويستحيل عقلا أن تكون المؤلفة قد سخرتها كلها للدعاية لموقفها من المتحولين جنسيا!
ولننظر لمثال آخر. لسنوات طويلة كان للمخرج والمؤلف التليفزيوني (جوس ويدون) ملايين المعجبين الممجدين لعبقريته في كتابة الحوار وفي ابتكار الحبكات الشيقة وفي دعمه في أعماله الفنية لفكرة المرأة القوية النسوية.. ويعتبر النقاد مسلسلات (بافي) و(إنجل) و(فايرفلاي) من أفضل الأعمال الفنية التليفزيونية. وزاد عدد معجبيه عندما أخرج فيلم مارفل (أفنجرز). لكن بعدها انكشف للجمهور، عن طريق طليقته ثم بعض الممثلات والممثلين الذين تعاملوا معه في الماضي، أنه منافق يتظاهر بدعم النسوية، وأنه استغل مكانته كمنتج تليفزيوني في استمالة الكثير من النساء لفراشه، وخيانة زوجته، وأنه كان يتلذذ بما يسببه من ألم نفسي لهن بعد قطع علاقته بهن، وأنه كان يهدد الممثلين بقطع العيش إن لم يتحملوا سخريته منهم، وأن هجومه المتكرر على مرؤوسيه كان يدفعهم للبكاء. فهل يقلل هذا من القيمة الفنية لأعماله؟
بل هناك من يقول أنه لولا تسلطه وقسوته أثناء التصوير لما خرج العمل الفني أصلا بهذه الجودة، لأن الخوف من سخريته منهم كان يجعل الجميع يقدمون أفضل ما عندهم.
فكما ترى المسألة شائكة ومعقدة وحلها ليس يسيرا.
ثم ألم نقرأ مثلا أن عددا من الصحابة كانوا يدرسون شعر الجاهليين الوثنيين، ويستخدمون معرفتهم هذه في تفسير لغة القرآن؟ فعلى الرغم من اختلافهم الديني مع الفنان الجاهلي، إلا أن أعماله الفنية كانت جميلة بل ومفيدة.
لكن الحد الفاصل هنا هو المحتوى نفسه. فهم، على سبيل المثال، لم يهتموا بجمع قصائد تدعو للوثنية، أو فيها ألفاظ ومعاني شديدة الفحش. فربما نستنتج من هذا أنه لنا أن نحكم أخلاقيا على محتوى العمل الفني، بغض النظر عن حكمنا الأخلاقي على الفنان.
وهو رأي وسط وعاقل.
(جوانا رولنج) نسوية، ومن مؤيدي الشواذ جنسيا، وصرحت - بعد نشر آخر رواية - أن شخصية دمبلدور مثلية جنسيا. وهذه الآراء جعلتها محبوبة في الأوساط الغربية الليبرالية، لكنها في نفس الوقت قد تجعلها مكروهة في الأوساط الإسلامية أو الروسية مثلا. فهل يختلف حكمنا على جودة العمل الفني بحسب توجهاتنا نحن كجمهور؟ أم ندع العمل يتحدث عن نفسه وعن توجهاته (حيث أنه لا توجد إشارات صريحة في متن الروايات نفسها سواء للنسوية أو المثلية الجنسية)؟
مؤلف سلسلة روايات الخيال العلمي الناجحة (لعبة إندر) معروف بعدائه للشواذ. مؤلفة سلسلة (لقاء مع مصاص الدماء) ظلت تتأرجح لسنوات بين الكاثوليكية والإلحاد، واستغلت أدبها لنشر أفكارها الدينية. الأخوان واتشوسكي أدخلا في أعمالهما الفنية عناصر مقتبسة من ميولهم الجندرية، في شكل تلميحات عن التحول الجنسي، ثم أعلنا تحولهما لامرأتين. وبأثر رجعي انتبه العديد من النقاد لتلميحات ذات مغزى في سلسلة أفلام الماتركس عن اختلاف مظهر بعض الناس عن حقيقتهم الدفينة المخفية داخلهم بعيدا عن نظر المجتمع. فالعمل الفني في هذه الحالة يختلف تفسيره حسب معرفة المتلقي لتوجهات الفنان.
وعلى المستوى الشخصي، لا أخفي صدمتي عندما علمت بعد سنوات طويلة أن الشاب (أندرو سيمز) الذي يدير جلسات بودكاست هاري بوتر (ماجل كاست) الذي أستمع له منذ سنوات، كان شاذا جنسيا طوال هذه الفترة. ومنذ شهور قليلة علمت أيضا أن زميله في نفس البودكاست الصوتي، (إريك)، أعلن رغبته في التحول جنسيا لفتاة! وحيث أني معادي تماما لهذه التوجهات والأفكار والميول، فهل علي أن أقاطع الحلقات الجديدة، أم أستمر ما دام محتوى الحلقات يدور حول تحليل فصول الروايات ولا يتعرض للحياة الشخصية لمقدمي البرنامج إلا نادرا؟
والطريف أن مقدمي البودكاست تواجههم نفس المشكلة، حيث أنهم يحبون سلسلة (هاري بوتر) لكن يكرهون توجهات المؤلفة وعدائها للمتحولين جنسيا، ولهذا أصبحوا يتحاشون ذكر اسمها أثناء التسجيل قدر الإمكان، ويكتفون بالإشارة لها بكلمة "المؤلفة"!
تصور أنك تسجل حلقة كل أسبوع في مدح عمل فني قد شكل فترة صباك وذوقك الفني وأصبح جزءا أساسيا من حياتك العملية، وأنك في نفس الوقت لا تريد مجرد التصريح باسم الفنان الذي أبدع هذا العمل!
على اليوتيوب تعامل (دوم سميث) صاحب سلسلة فيديوهات "ضاع في الترجمة" مع المسألة بطريقة مختلفة، حيث كان ينشر حلقات تفصيلية تدرس الفروق بين روايات هاري بوتر وبين الأفلام المقتبسة منها، لكن لما أعلنت المؤلفة موقفها المضاد للمتحولين جنسيا قرر إيقاف السلسلة، لأنه رأى أن موقفه الأخلاقي يقتضي مقاطعة أعمالها التي يحبها، وأن استمراره قد يساهم - بشكل ضئيل جدا - في استمرار ثرائها ونجاحها والدعاية لها، حتى ولو بطريقة غير مباشرة. وحيث أنه لا يريد أن يساهم في ثروتها حتى ولو بـ سنت واحد فقد قرر عدم ذكر أي أعمالها القديمة أو الجديدة.
هذا الموقف قد يتغير عند وفاة الفنان، حيث أن دعم أعماله بعد رحيله لن يفيده بشكل شخصي. وبهذا يمكن أن نفسر استحلال بعض الصحابة لرواية أشعار الجاهليين القدماء الذين كانوا قد ماتوا بالفعل، وأيضا استمرار وجود معجبين غربيين ليبراليين يستمتعون بأعمال مؤلفين قدماء كانوا معروفين بمعاداة السامية أو تأييدهم للعبودية، مع أنها آراء يرفضها هذا الجمهور الغربي. فشراء قصص (لفكرافت) المرعبة اليوم لن يفيده هو في شيء، لأنه رحل عن عالمنا منذ فترة طويلة.
المهم هو المحتوى نفسه: هل كانت القصة تدعو لهذه الأفكار أم لا؟
فما دام المحتوى موافق لتوجهاتك، والفنان ميت وبالتالي لن يستفيد من المال والشهرة، فلم لا تستمتع بعمله الفني؟
التعليقات