قد يبدو السؤال بديهياً، والإجابة عنه بديهية أكثر. لكن دعونا لا نطلق أحكاماً سريعة، ونتبادل وجهات النظر حول الأسباب التي تدفع البعض لرفض الفلسفة، علنا نخرج منها بمنظور جديد. وبمناسبة هذا الحديث، دعني أطرح عليك سؤالاً إضافياً: هل ترفض الفلسفة أم العكس؟ ولماذا؟
ما الذي يدفع بعض الناس إلى رفض الفلسفة؟
ربما لأن الفلسفة تتطلب التفكير كثيرًا لنصل إلى استنتاجات عقلانية، كما أنهم قد لا يودون الخوض في نقاشات قد لا نصل بها إلى اراء متفقة عليها أو أنهم يرون بأن النقاشات لا تجدي نفعًا ومضيعة للوقت، بجانب أن الكثير منهم يرون بأنهم لا يرونها تحدث فرقًا ملحوظ في حياتهم. ولا سيما أن كفة الميزان تميل إلى العلم والتكنولوجيا. وربما أن البعض يرى بأن الفلسفة التفكير بها تؤدي إلى الحقيقة والناس يبدو بأنها تكره الحقيقة.
هل ترفض الفلسفة أم العكس؟ ولماذا؟
لابالتأكيد، أميل إلى الفلسفة ودراستها، اذ أنني من خلالها ممارسة التفكير النقدي والتحليلي، بجانب فهم وجهات نظر الآخرين والتفكير للامور بأبعادها المختلفة، حتى أن الفلسفة مهمة لمهارة القيادة وتعزيزها، اذ أنها تساعدنا على التعبير عن أفكارنا ورؤيتنا للآخرين
أعتقد ذلك. فما تفعله الفلسفة أنها تعيدنا إلى نقطة الصفر، لتجعلنا نشكك بكل شيء وصولاً إلى الحقيقة، وهذا أمر يخيف غالبية الناس ممن يميلون إلى التقليد الأعمى، تجنب التفكير الجاد، ويتمسكون بآرائهم الشخصية وبما توارثوه بتعنّت شديد.
أتفق معك بخصوص ما ذكرته حول أهمية الفلسفة، وهذا مما يعجبني فيها. فمن خلالها نفهم أنفسنا والآخرين بصورة أفضل، ونعزز ملكات التفكير والقيادة لدينا، ونحسن قدرتنا على التعبير عن ذواتنا وأفكارنا تجاه الناس والعالم الخارجي.
الناس لا تكره الحقيقة، ولكنهم قد يرون الفلسفة غير كافية لتتمحور حولها حياة الإنسان. قد يروّن أنها فقط لا توصل إلى مكان، فالفيلسوف بالنسبة لهم شخص مجنون لأنه يضيع حياته في تساؤلات، وستبقى الإجابات التي يتوصل إليها في النهاية مجرد نظريات يرفضها جزء من المجتمع ويرفضها الجزء الآخر.
الدليل على ذلك أنّ الفلاسفة أنفسهم قديمًا كانوا لا يكتفون بدراسة الفلسفة وإنما يضعون إلى جانبها مجالات أخرى يهتمون بها. ألا نسمع دائمًا عن العالِم الذي كان فيلسوفًا طبيبًا أو فليسوفًا ورياضياتي وهكذا؟
ألا تعتقدين أن من يقضي حياته وهو يطرح الأسئلة لتعرية الجهل وكشف الزيف، حتى لو لم يتوصل لإجابات مؤكدة، أفضل ممن يظن أنه ختم العلم ووجد إجابات نهائية لا تقبل الشك (باعتقاده) لكل مسألة تؤرق البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ؟
فقط إذا كان ولا بد التخيير فالأول أفضل بكل تأكيد.
لكن الأسئلة التي تجعل سائلها ومن حوله يدورون في حلقة مفرغة، لا فائدة منها.. صفر استفادة للبشرية. هناك أمور خٌلقنا وهي مسلمات إلى درجة تجعل السؤال فيها ضربًا من ضروب العبث.
لا أنكر فضل الفلسفة ولا أرفضها أبدًا، بالعكس، بل إنها قد تكون أصلًا أم العلوم كلها، والإنسان خُلق أصلًا ليفكر وليبحث عن الحكمة ولكن إنفاقها فيما ينفع سيحقق الهدف منها وليس مجرد التفكير في أي شيء وكل شيء لمجرد تحقيق هدف التفكير.
ما الذي يدفع بعض الناس إلى رفض الفلسفة؟
ربما عليا ان اقلب السؤال حجتى نتمكن من الاجابة عنه بشكل جيد ، فنقول:
مالذي يدفع بعض الناس الى محبة الفلسفة وقبولها؟
لانه بالفعل من الغرابة بمكان حب الفلسفة وقبلولها في مخيال المجتمع خصوصا في هذاا لوقت الحرج من تاريخ الفكر البشري الذي اصبح في العمل العقلي ليس مجرد رفاهية فارغة فقط، بل ضرب من الجنون.
الفسلفة والتفلسفة علميلة مضنية ومتعبة جدا، لا تحتاج فقط الى دراسة وجهد واطلاع مستمر، بل تحتاج الى اتصال عميق بالذات والتفكير الدقيق في الامور والاصعب من هذا كله، أنها تتحدى كل المعتقدات والثوابت والمسلمات الراسخة والافكار القبلية التي تربى وتبرمج عليها الفرد.
الفسلفة والتفكير الجدي عموما هي رحلة مخاض متعب مع الاسف لن تنتهي بمولود، بل بميت في معظم الوقت، سيجد الشخص نفسه غريب وحيد في عالم من الناس التي لا تفهمه ولا يمكن ان تستوعب عقله، مع انه يفهم جيدا كل تفاصيلهم، سيشعر الشخص مع الوقت بارهاق المقاومة وتعب الاختلاف ومع الاسف لا يمكنه ان يعود الى حالة العادي الذي لا يفكر، لكنه سيبقى في خانة المعلق المرفوض الذي لايمكنه العودة للقطيع ولا يمكنه في نفس الوقت البقاء لوحده، وهذا هو سبب رفض الناس للتفكير، طبعا هناك اسباب بيولوجيو اخرى، لن تتطرق لها هنا، لكن هذا هو العامل الاهم.
كل البشر في بدايات حياتهم كانو مفكرين حاولوا ان يطرحوا اسئلة ويفكروا فيهابجدية ، لكن مقاومة المجتمع ومحكاماته جعلك اي شخص يحاول ان يفكر بطريقة حرة يفكر ألف مرة قبل أن يفعل ذلك، مخافة النبذ الاجتماعي وخسارة المكانة والتأييد الاجتماعي ...مع الوقت ينتقل هذا الخوف الى الذات نفسه، فيصبح الشخص يخاف من خسارة نفسه داخل متاهة الأفكار، لأن التفكير امر غير مريح إطلاقا ، وسيجعله في حروب داخلية لا تهدأ، لذلك سيحاول افشال كل احتمالية تفكير موجودة، ويفعل ما بوسعه ان فعل نفس الشيء مع الناس الذين يقابلهم.
أعتقد أن الإنسان يولد تقليدياً أو مختلفاً منذ نعومة أظفاره. بمعنى أنني أرجح فكرة أننا نولد بميل جيني خفي، يقودنا للانضمام إلى القطيع أو الانشقاق عنهم. وفي هذه الحالة، سواء تخصص المرء في الفلسفة نتيجة اجتماع ظروف معينة أو العكس، فإن اختلافه عن التيار السائد سيجعله بشكل أو بآخر وحيداً. ما تفعله الفلسفة فقط هي أنها تعمّق هذا الاختلاف بفتح مدارك عقل المختلف أكثر، لكنها لا تخلقه من لا شيء ولا تقتله (الاختلاف) إذا لم تطأ قدما المرء أرضها الرحبة.
من هذا المنطلق، يخرج الإنسان المختلف عن القطيع من وجهة نظري سواء اتخذ الفلسفة سفينة إبحار إلى جزر جديدة أم لم يفعل. وبكلتا الحالتين سيشعر بالغربة والنبذ والوحدة. أما من لديه ميل جيني للتقليد الأعمى يصعب أن يستفيق يوماً ليجده نفسه مختلفاً ووحيداً، بل يبقى كما هو بقية حياته، مندمجاً بسعادة وهمية مع القطعان البشرية بعيداً عن متاهات التفكير الجميلة التي يرفض ولوجها بحكم ميله الفطري هذا إن صح التعبير.
ربما أكون مخطئاً، وأرجو أن أكون مخطئاً. لكن تساؤلات كثيرة أطرحها على نفسي دوماً: لماذا يختار شخص إغلاق عقله بالشمع الأحمر راضياً مرتاحاً مهما تعرّض إلى محفزات تدعوه للانشقاق عن التقليد؟ أم أنه ولد أساساً بعقل مختوم لا يمكن تحريره؟ بينما يختار آخر رفض التقليد المجتمعي حتى لو وضعناه ضمن بيئة تمنع أي محاولة للاختلاف، ولا تحفز سوى التقليد الأعمى؟ هل هي حرية الاختيار بنهاية المطاف؟ أم أنها حرية اختيار وهمية نتاجها استعداد جيني يفرض نفسه على بعض أهم قراراتنا لنظنها اختياراً محضاً، بينما لا تعدو كونها استعداداً خفياً يقودنا إلى تلك الاختيارات دوناً عن غيرها؟
إضافة إلى ذلك، هل من الأفضل للإنسان المختلف يا ترى أن يحاول الاندماج مع المجتمع قدر استطاعته، بدلاً من عيش حالة الصراع هذه؟ أم هي ضريبة الاختلاف والحرية التي ينبغي أن يدفعها كل من يخرج عن التيار السائد راضياً؟
قد يبدو السؤال بديهياً، والإجابة عنه بديهية أكثر. لكن دعونا لا نطلق أحكاماً سريعة، ونتبادل وجهات النظر حول الأسباب التي تدفع البعض لرفض الفلسفة، علنا نخرج منها بمنظور جديد. وبمناسبة هذا الحديث، دعني أطرح عليك سؤالاً إضافياً: هل ترفض الفلسفة أم العكس؟ ولماذا؟
أعتقد يا نبراس لأن الفلسفة مرتبطة بالتفكير العميق أو التفكير في صغائر الأشياء من أجل الوصول إلى الاستنتاج أو الأفكار التي قد تؤمن بها أم لا، فالناس قد تفضل اتباع فلسفة أو أفكار الأخرين كطريق مختصر، أو إجابة أخرى قد لا يعلمون ما هي الفلسفة على الرغم من ممارستها ولكن لا يدركونها.
لا أرفض الفلسفة، درستها لمدة عامين وتعلمت أليات للتفكير والتحليل النقدي والمنطقي من خلالها ولكن لا أرتبط بها على الدوام هي جميلة بالطبع ولكنني لست من محبينها.
أوافقك يا آية. وليس مطلوباً منا جميعاً أن نحب الفلسفة، لكننا مطالبون بتقبل الفكر الآخر، وفتح الباب للحوار والتفكير النقدي. طالما أنك تقبلين اختلاف الأفكار والمعتقدات فهذا جزء مهم من جوهر الفلسفة حسب ظني، بصرف النظر عن ميلك الشخصي تجاهها. المهم بنهاية المطاف، ألا نكمّ الأفواه ونقيّد العقول بأغلال المفاهيم المطلقة التي لا تقبل الجدل.
التعليقات