كانت محاضرة مليئة بالفوائد النقدية، عندما كنت أدرس بدايات النقد الأدبي في الجاهلية، وعرفت أنه لم يكن منهجيا قائما على أصول ومعايير ثابتة، وإنما كان انطباعيا يحكم الناقد على الشعر من خلال ذوقه الخاص، وينطلق حكمه من أصول اجتماعية أو أخلاقية.

إذ حدثتنا الأستاذة عن بيت لطَرَفة بن العبد، يفخر فيه بكرم قبيلته عندما يشربون الخمر، يقول فيه: "إذا ما شربوها وانتشوا،، وَهَبُوا كل أَمُونِ وطِمِرْ" (أي عندما يشربون الخمر ويسكرون، يعطون كل ما لديهم، الأمون أي الغالي الثمين، والطمر أي القديم البالي)

عابه النقاد لأنه يفخر بكرم القبيلة بينما هم سُكارى فقط، وهم بذلك ليسوا كرماء أصلا لأن السكران لا يعي شيئا عما يفعل.

وقال عنترة بن شداد أبياتا بالمعنى ذاته، يقول فيها:

"فإذا شربتُ فإنني مُسْتَهْلِكٌ،، مالي وعِرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ..

وإذا صَحَوْتُ فما أَقصِّرُ عنْ نَدَىً،، وكما عَلمتِ شمائلي وَتَكَرُّمي"

احترس عنترة في هذين البيتين، حيث قال إنه يستهلك ماله لكن عرضه كما هو لم ينقص شيئا، وفي البيت الذي يليه أيضا يثبت لنفسه صفة الكرم عندما يفيق من سكره.

  1. إذن عنترة تفوق على طرفة في شيئين: العطاء مقصور فقط على المال، والعرض يظل كما هو والخمر لا يؤثر عليه.
  2. أن العطاء يظل قائما في السكر والصحو. وهو بتلك الإضافة يستحق أن يصفق له النقاد ويُعجبوا به وبأبياته.

وجاء دور أميرهم، امرؤ القيس، وهل يعقل ألا يقول شعرا في هذا الموضوع؟!

يقول امرؤ القيس: "سَماحَةَ ذا، وَبِرَّ ذا، وَوَفاءِ ذا،، وَنائِلَ ذا، إِذا صَحا وَإِذا سَكِر"

يتحدث عن نفسه بعد أن ذكر آبائه وأخواله، فيقول إنه أخذ من كل واحد منهم خصلة حميدة، فأخذ السماحة والبر والوفاء والنائل (العطاء) إذا صحا وإذا سكر..

هل لاحظت الفرق بينه وبين عنترة؟ إنه لم يفخر بكرمه فقط، بل بالسماحة والبر والوفاء أيضا، في السكر والصحو. وكل ذلك جمعه في بيت واحد. عنترة افتخر بالكرم في السكر والصحو ولكن في بيتين.

ولما كان الإيجاز من أهم ما ينظر إليه الذوق العربي، ويبحث عنه بين قصائد الشعراء، فإن ما قدمه امرؤ القيس لا يجعل النقاد يصفقون له فقط، بل ويرفعونه على الأكتاف مهللين مُشِيدين بعبقريته، وكان له حق التربع على عرش إمارة الشعراء.

وأنتم، أو من درس وقرأ شعر امرئ القيس، هل لفت انتباهكم أي أبيات له؟ ومَن مِن الشعراء المعاصرين تظنون أنه خليفة امرئ القيس؟