لعل أكثرنا سمع أو قرأ أو حُفِّظ (دُرِّس) أن معلقة امرئ القيس لها عدة مواضيع أو أنها مفككة وهذا لعله رأيٌ أجنبي جمدنا عليه وبعضٌ من الناس قال أن أصلها قصائد جمعها الرواة في قصيدة وغيرها من التبريرات التي تبنّت التهمة وهي تردها ولم تفهم أدبها القديم
أقول: لننظر فيها
أولا: هي قديمة ولها عدة روايات وفي الروايات بعض الاختلافات واحدى الروايات دخلت فيها أبيات شاعر آخر (فقرة "وقربة أقوامٍ" هي لتأبط شرًا عرفها الخبراء من أسلوبها)
ثانيًا: الإشاعات التي يأتي بها القصاصون تُخَرّب المفهوم من القصيدة لكن بطلانها واضح لأن القصة تقول أن الأيام في القصيدة يوم إذن لا يُعتنى بها
أما الآن فلْنتجاهل ذلك ولْننظر في مواضيعها الواردة في رواية الأصمعي:
- الوقوف على الأطلال (قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ)
- الغزل القصصي ( قصة العذارى وعنيزةَ وبيضةِ الخدر)
- وصف الليل (وليلٍ كموج البحر)
- وصف الخيل مع رحلة الصيد (وقد أغتدي والطير في وكناتها)
- وصف الطبيعة ( أحار ترى برقًا)
زَيْن, هذا ما يقال, لِننْظر في متن المعلقة
تبدأ المعلقة بعبارة :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قفا : يأمر صاحبيه بالوقوف
نبكِ : هذا جواب الطلب, ومعناه أننا سنبكي إذا وقفنا
من ذكرى حبيب ومنزل: "نبكي من ذكرى" هي نظير قولك "نرتعش من البرد" يعني أن الذكرى ستأتي ومن هذه الذكرى سنبكي
والتفت أنّ جواب الطلب كان بصيغة الجمع
وهذا يعني أن في البيت اختصارًا شديدًا ومعناه : قفا يا صاحبَيَّ ستأتي ذكرى الحبيب والمنزل وسنبكي جميعًا عليها
ألا تُحِسّون أنه يُخبِرنا أنه سيحكي ذكرياته ؟
ولْنُوصِلِ الآن لِنَرَ بماذا تبدأ فصول هذه القصيدة وهل هي مرتبطة بالمطلع
أول فصل بعد الأطلال وذكرى ارتحال النسوة هو قصص الفتيات
فأما فصل الفتيات
فيبدأ بهذا البيت:
أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ وَلا سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
"رُب يوم صالح " هي مثل قولك "رُب ضارة نافعة" التي تعني يوجد العديد مما هو ضارة نافعة
فالمعنى: توجد لك العديد من الأيام الصالحة (يكلم نفسه)
ويقول لا يوم مثل يوم دارة جلجل
السؤال: هل هذه ذكرى ؟
نعم, لا شك
ثم تأتي قصة العذارى:
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِيْ فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ
بدأه بعبارة "ويومَ" وهي معطوفة بالواو والواو منصوبة على الظرفية
نعم, هذه ذكرى فكل هذا الفصل ذكرى
وبقية قصص هذا الفصل مثله:
وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
وَبَيْضَةِِ خِدْرٍٍ لا يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ
كل هذه أيامٌ ومعطوفة بالواو
والتفتوا إلى فصل "وبيضةِ خدرٍ"
معنى هذا التعبير "و رُبّ بيضة خدر" (لأن بيضة تحتها كسرة) يعني توجة العديدات مثلها , وهذه ذكرى بل كأنّه يقول كان لي العديد من مثل هذه الذكرى !
لم يزل يتكلم عن الذكريات
وأما فصل الليل:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدولهُ عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
ومازال يعطف المواضيع بالواو, وهذا الفصل يبدأ بنفس تلك الواو (رُبّ ليلٍ كموج البحر)
وأما فصل الخيل:
وَقَدْ أغْتَدي وَالطّيرُ في وُكنُاتُها بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ
هل هي ذكرى؟
وما وظيفة الواو هنا ؟!
وأما آخر فصل:
أحار ترى برقًا كأن وميضه كلمع اليدينِ في حبي مُكلل
هنا لم يعطف بالواو في بداية الفصل واستعمل الوصل, فبدأه بالنداء, وأما هنا فبدأبنداء صاحبه " أحار ترى برقا" وفي رواية "أصاح ترى برقا"
والظاهر أن هذه رحلة أو شيء من هذا القبيل لأن مع صاحبه وتراه يصف مطرًا يتجول معه بين المناطق, وهذه ذكرى
انتهت المعلقة ولم يتكلم امرؤ القيس إلا عن الذكريات التي يبكي عليها
ولهذا كثُر التشبيه, لأن غرضه الوصف وصف الذكريات التي ولّت
والتفتوا مرةً أخرى:
- في قصة العذارى تعجب من كور مطيته التي ذبحها, ثم وصفها بأنها كثيرة الشحم
- في قصة بيضة الخدر وصف البنت أنها لا تُرام وعليها حراسة "وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤووم الضحى" هذا يعني أنها مخدومة وركّز امرؤ القيس على ملوكية البنت في وصفه
- لمّا وصف الخيل أعطاه صفاة ملوكية وكأنه خيل لا يكون إلا لملك ووصفه للرحلة يوحي بأنها لهو (صاد من مقدمة السرب)
امرؤ القيس هو ابن ملك مملكة كِندة التي سقطت ولم يكن له ليلهو هكذا إلا بذلك الملك, وهو يبكي على أيامه أيام كان الأمير لمّا تذكر وبدأ ذكرياته بالوقوف على أطلال أصحابها, نعم إنّ القصيدة قصيدة أطلال (تعبير الأستاذ أبي قيس الطائي)
القصيدة عالية لأنها حققت غرضها بأفضل ما يكون وفي طيات سطورها معانٍ أكثر
أوصلت رسالتها وجعلت المستمع يكون كأنه داخل ذكريات امرئ القيس يمرح على جواده ويتذوق ما خسره ويحس بسعادته الفائتة وحزنه
والآن أترككم مع أطلال مملكة كندة أطلال قرية الفاو:
وشكرًا لاهتمامكم والسلام
التعليقات