كما نشأت كل الحضارات القديمة في وديان الأنهار، نشأت الحضارة الآشورية في كنف نهري دجلة والفرات، أو ما يعرف ببلاد الرافدين، أو بلاد ما بين النهرين "والتي تشكل أرض دولة العراق اليوم"، حيث مهَّد الآشوريون لحضارات كثيرة لاحقة مثل سومر، والأكاديين، وبابل.

تمثّلت "الحضارة الآشورية Assyrian Civilization" بالإمبراطورية السامية التي قامت في منطقة الشرق الأدنى. امتد وجودها لمدة 19 قرناً بين 2500-605 ق.م. كانت آشور أكبر مملكة ناطقة باللغة السامية الشرقية في بلاد ما بين النهرين وأكبر إمبراطورية في الشرق الأدنى القديم.

يقسم حكم الآشوريين إلى ثلاثة عصور: قديمةٍ تمتدُّ من عام 2025 إلى 1750 ق.م، ووسطى من عام 1365 إلى 1020 ق.م، وحديثة استمرت من عام 911 إلى 605 ق.م، تعدُّ هذه الحقبة عصر القوة للمملكة الآشورية، إذ تحولت فيها إلى أكبر إمبراطورية في العالم، وأظهرت ملامح أول إمبراطورية –بالمعنى الحديث– في التاريخ بحسب أغلب المؤرخين، فقد استخدم الأشوريون الحديد ووضعوا الخطط العسكرية التي زادت قوَّة ونفوذ واتساع هذه الإمبراطورية.

كذلك، وكمعظم الحضارات التي سادت في ذلك الزمان عُرف عن الحكم لدى الآشوريين تولّي الرجال للمُلك، وكان وصول امرأة إلى سدة الحكم أمراً مستغرباً ونادراً، لكن ملكة واحدة، استطاعت أن تضرب بهذه القاعدة عرض الحائط، وحكمت عرش بلاد ما بين النهرين، ومازالت إلى اليوم تُذكر في المحافل التاريخية والفكرية وحتى السياسية على أنها الملكة التي جمعت الجمال والقوة والذكاء والطموح، وصار الحديث عنها يجمع الخيال بالواقع والأسطورة بالحقيقة.

حققت هذه المرأة شهرة وقوة في حياتها، وكان وصولها للسلطة أمراً صاعقاً، تردّد صداه بعيداً في الذاكرة التاريخية، حيث إن شخصية سميراميس القوية وذكائها الحاد وجمالها، جعلها تفرض سطوتها وتمسك بتلابيب عرش البابليين طيلة عشرات السنين.

بين الأسطورة والحقيقة أغنت حياة الملكة سميراميس المخيال العالمي الفني، فقد أُعجب بها اليونانيون والأوربيون وأضافوا عليها الشيء الكثير من خيالهم فجعلوها أسطورة وأعطوها اسم سميراميس، حيث قال عنها  كتسيساس المؤرخ والطبيب اليوناني بأنها ابنة آلهة السمك.

من طفلة رباها الحمام إلى أشهر ملكات بابل..! "الأسطورة"

كثرت الأساطير التي تكلمت عن ولادة سميراميس. وفقاً لـ ديودوروس الصقلي Diodorus  Siculus المؤرخ اليوناني الذي اشتهر في زمن يوليوس قيصر، ولدت سميراميس في عسقلان "إسرائيل الحالية".

تقول الأسطورة:

عندما غضبت "الآلهة عشتار أفروديت عند الإغريق" على إلهة السمك ديريستو وضعت في قلبها حبّاً عظيماً لأحد البشر الفانين، فأسلمت ديريستو نفسها للشاب وحبلت منه، ووضعت مولودها انثى فائقة الجمال، ولما شعرت بالعار قتلت الشاب وعادت إلى البحيرة لتتحول إلى سمكة وتركت طفلتها وحيدة.

اكتشف سرب من الحمام الطفلة الوحيدة وقرروا الاعتناء بها، وبدأت الحمائم تبحث عن غذاء للطفلة، فاهتدت إلى مكان يضع فيه الرعاة ما يصنعون من جبن وحليب، فتأخذ الحمائم منها بمقدار ما تحمل مناقيرها لتقدمه للطفلة، إلى أن لاحظ الرعاة ما يفعله سرب الحمام، فلحقوه حتى وجدوا الطفلة والحمائم تطوقها بعطف، فأخذوها إلى خيامهم، واتفقوا على أن يبيعوها في سوق نينوى العظيم.

وصول الطفلة إلى نينوى

 صبيحة ذات يوم حملوا الفتاة وقد أطلقوا عليها اسم سميراميس وتعني الحمام باللغة الآشورية، إلى سوق نينوى حيث يعرضونها للبيع. كان سيما وهو أحد رجالات ملك نينوى هناك، فلما رآها تسلل حبها إلى قلبه وحن قلبه عليها وقرر أخذها ليتبناها، حيث ربّاها مع زوجته إلى أن بلغت سن الرشد وكانت فاتنة حسناء.

كان أونس مستشاراً للملك، رأى سميراميس صدفة وأحبها وطلب يدها للزواج فلما وافقت أخذها إلى نينوى وتزوجها هناك وصار لهما طفلان ربما توأمان هما هيفاتة و هيداسغة.

لما كانت سميراميس فائقة الذكاء كان أونس يستشيرها، وتقدم له النصح والمشورة في أعماله إلى أن أصبح ناجحاً في كل مساعيه.

خلال ذلك الوقت كان ملك نينوى ينظم حملة عسكرية ضد الجارة "باكترا"، فأعد جيشاً ضخماً لهذا الغرض لأنه كان يدرك صعوبة الاستيلاء عليها. بعد الهجوم الأول استطاع أن يسيطر على البلد برمته ما عدا العاصمة باكترا التي صمدت. شعر الملك بالحاجة إلى أونس ليستشيره ،لذا أرسل في طلبه.

طلب أونس رفقة زوجته فلبّته وجاءت معه.

بجانب أسوار  باكترا  تابعت سميراميس سير المعارك ودرستها بعناية، وضعت العديد من الملاحظات عن الطريقة التي يدار بها الحصار. بينما كان القتال جارياً في السهل فقط ولم يعر المدافعون والمهاجمون  للقلعة أي أهمية، طلبت  سميراميس  إرسال مجموعة من الجنود المدربين على القتال في الجبال إلى المرتفع الشاهق الذي كان يحمي الموقع. ففعلوا ذلك ملتفين حول خاصرة العدو المدافع وهكذا وجد الأعداء أنفسهم محاصرين ولا خيار لهم سوى الاستسلام.

وصول سميراميس للحكم وانتحار  زوجها

في ثنايا هذه الأحداث صار ملك نينوى نينوس  شديد الإعجاب بـ سميراميس  لما أبدته من شجاعة ومهارة لحسم المعركة وطلب مقابلتها لتكريمها.

عندما رأى الملك سميراميس أعجب بها، ولم يستطع مقاومة سحرها، لذا طلب منها أن تكون زوجته وملكته، وأجبر زوجها على التخلّي عنها ليتزوجها هو، فحزن  أونس على زوجته كثيراً ولم يتحمل فراقها فقتل نفسه.

هكذا أفلح نينوس الملك بالزواج من سميراميس وصار لهما طفلاً أسمياه نيناس، وبعد موت الملك كان الحكم لابنه الذي لم يكن يبلغ السن القانونية للمُلك بعد، فكانت أمه الوصيّة على الحكم لمدة خمس سنوات، تسلمت كملكة لنينوى عاصمة بلاد النهرين.

كانت مُدّة سيطرتها متفرّدة بالحكم لخمس سنوات بعد وفاة زوجها، لكن استشاراتها ومشاركتها في الحكم ربما دامت كامل حياة زوجها نينوس، الذي بنت له ضريحاً في نينوى تمجيداً لذكراه.

نهاية الملكة

يخبر المؤلف الروماني "جايوس يوليوس هايجينوس Gaius Julius Hyginu "كاتب الأساطير والشاعر اليوناني من القرن الأول الميلادي أن الملكة الأسطورية انتحرت برمي نفسها في محرقة، في حين زعم المؤرخ الروماني جوستين  Justin  من القرن الثالث أن سميراميس قُتلت على يد ابنها بعد أن تآمر عليها ليتسلم الحكم.

سميراميس في التاريخ

على الرغم من القصص الأسطورية التي تروى عن حياة سميراميس، إلا أنها ملكة آشورية حقيقية، حيث أكدت المدونات التاريخية بوجود ملكة اسمها سمو-رامات أم الملك أداد نيراري الثالث الذي حكم العراق من 783-810 ق.م، وهي أيضاً زوجة الملك" شمشي أدد الخامس الذي حكم من 823-811 ق م، بعد وفاة زوجها أصبحت وصية على ابنها  أداد نيراني، وحكمت لمدة 5 سنوات لحين بلوغ ابنها سن الرشد، إلا أنها كانت مشاركة في الحكم منذ أيام زوجها، وكذلك مع ابنها لسنوات طويلة.

أهم إنجازات سميراميس

قلّدت سميراميس / سمو- رامات الملوك الآشوريين العظام بإقامة مسلّة لشخصها تخلد ذكراها في ساحة المسلات في معبد الإله آشور، وذلك في العاصمة المقدسة آشور"قلعة شرقاط" التي اكتشفتها بعثة التنقيب الألمانية في مطلع القرن العشرين وبرئاسة "المنقب والتر اندريه Walter" Andrae" جاء فيها:

مسلة سومو- رامات

ملكة شمشي أدد ملك الكون ملك بلاد آشور

كنّة شملنصر ملك الجهات الأربع

كانت شخصية سامو- رامات Sammu-ramat من القوة والتأثير بحيث أصبحت قادرة على إدارة دفّة الحكم في الإمبراطورية الآشورية المترامية الأطراف التي تمتد من آسيا الصغرى إلى ما يعرف اليوم بغرب إيران، وحكمت باقتدار لمدة خمس سنوات، وكانت انجازاتها العمرانية والعسكرية سبباً أكسبها شهرة واسعة في عصرها ولأجيال عديدة لاحقة مما جعل من اسمها وذكراها مادة لكثير من الأساطير والقصص.

نسب لـ سميراميس بناء مدينة آشور وتأسيس حضارتها، كما أنها تمكنت من حفر نفق عميق أسفل نهر دجلة ليربط بين ضفتيه.

نسب لها  هيرودت  Herodotus المؤرخ اليوناني بناء ضفتي نهر الفرات كما أكد أن اسمها كان منقوشاً على أحد بوابات بابل العظيمة. أما على صعيد الجانب العسكري اتسعت رقعة بلادها كثيراً في فترة حكمها، فقد سيطرت على بلاد الأناضول ومصر والشام.

خاضت "سميراميس" حروباً مع بلد ميديا ووصلت للهند بجيشها، وكرهها الأرمن ووصفوها بأسوء الألقاب ذلك بسبب هزيمتها لهم وإذلالهم.

أثّرت الملكة في الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية. رغم من مشاركتها سكان آشور الحضارة الواحدة، إلا أن أصلها الجنوبي منحها بعض الخصوصيات المذهبية والثقافية ،حيث استطاعت إشاعة المؤثرات البابلية على طريقة الحكم وعلى الكهنوت الآشوري وعلى عموم الحياة في نينوى. فأضفت نوعا من الرقة والروحانية الجنوبية على المذهب الآشوري الذي كان يتسم أكثر بنوع من تقديس الفحولة المتمثل بالإله آشور وكذلك الميل إلى منطق القوة والحرب. بل حتى أنها نجحت بإبراز أدوارِ آلهةٍ كانت ثانويةَ عند الآشوريين مثل إله الحكمة والكتابة البابلي نبو وكبير آلهة البابليين مردوك.

هيمنة سميراميس على الثقافات وتأثيرها

تذكر المدونات التاريخية القديمة كيف كان عهد سمورامات/ سميراميس عهداً عظيماً لآشور، فقد خلدتها ذاكرة الإغريق والآشوريون باعتبارها شخصية مقدسة ولدتها الآلهة ورباها الحمام.

 بينما احتفظت الذاكرة الارمينية بصورة سيئة عنها لأنّها غزت بلادهم، فقد حكمت سميراميس دولةً مترامية الأطراف وسيطرة على العراق والأناضول ووسط آسيا.

يحكي "المؤرخ الإغريقي وكاتب السيّر بلوتارخ  Plutarch" قصةً طريفة. فقد بنت سميراميس لها نصباً تذكارياً ونقشت عليه التالي: على الملك الذي يريد كنزاً أن يفتح هذا القبر، وبعد أن مرّ على وفاة سميراميس قرابة ثلاثة قرون، حتّى جاء الإمبراطور الفارسي داريوس العظيم، وفتح النصب التذكاري فلم يجد شيئاً، لكنّه وجد نقشاً آخر مكتوباً عليه: لو لَم تكُن خسيساً جشِعاً لَما أزعجت الموتى في بيوتهم.

التأثير على ثقافة أوروبا الحديثة

استطاعت سميراميس فرض نفوذها على عقول وقلوب ملكات أوروبا في العصر الحديث، فقد أطلق اسمها على الملكة "مارجريت" ملكة الدنمارك والسويد والنرويج التي حكمت من عام 1350 - 1412 م، والملكة كاترين الثانية قيصرة روسيا 1729-1769م، وقد وصفها الكاتب ويفي ميلفيل في روايته ساركا دون-أسطورة الملكة العظيمة "أنها  كانت فائقة الجمال بلا شك، ذلك الجمال الذي تعجز الكلمات عن وصفه، إنه الجمال المنتصر، ليس بأقل من الجمال الذي يذعن له الآخرون مرغمين".

لا تزال القصة الحقيقية لـ سامو رامات من لحم ودم بعيدة المنال. السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي حققته قبل 2800 عام والذي أدهش العالم بشدة وسمح للأساطير الرومانسية بالظهور حول إرثها؟

دلائل أثرية تؤكد الاسطورة

وجد علماء الآثار أربع قطع أثرية رئيسية تقدم على الأقل بعض الأدلة لتجميع سيرة سميراميس الذاتية، وذلك في مدينة نمرود القديمة في العراق الحديث، ذكر اسمها تمثالان مخصصان لـ نابو إله المعرفة والكتابة البابلي. هناك أيضاً لوحتان، أحدهما من مدينة "كيزكابانلي" في تركيا الحالية، والآخر من آشور في العراق، يذكرانها.

تؤسّس النقوش الأربعة على الأقل قصّتها، فلقد عاشت الملكة بالتأكيد في الإمبراطورية الآشورية بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وكانت متزوجة من الملك شمشي أداد الخامس، الذي حكم من 823 إلى 811 قبل الميلاد، وكانت والدة الملك أداد نيراري الثالث.

أنجبت ملكة التاريخ سامو-رامات الأسطورة سميراميس، التي تم الإشادة بإنجازاتها المدنية على نفس مستوى الإشادة بجمالها وفتنتها، استطاعت تحقيق الانتصارات العسكرية، وبناء العجائب المعمارية، وتولي عرش آشور بحكمة.

استند المقال إلى المواقع التالية