قد تُحادث في محادثة الكترونية صديقًا، أو بتعبير أدق، غانية من الغانيات، ويمضي الوقت ولا تشعر أنّه مضى، ويقصُر الليل وما كان ليلك قبل هذا يقصُرُ، هل شعرتَ بجسدك في تلك اللحظات؟ هل انتبهت لنفسك حين تنفّست ورمشت؟

من المفترض ان يكون العالم الرقمي عالمًا ماديًا، لكنّه أكثر العوالم التي تجعلنا نُفارق أجسادنا، ونعيش في سحابة، لا نشعرُ عندما نكون فيها بكثير من صفات ذواتنا وأجسادنا.

هذا الأمر ذكّرني بكتاب معقّد في الفلسفة الأخلاقية لـ ألاسدير ماكنتاير، وهو فيلسوف نويتُ أن أقرأ له فأعياني أنا الإنسان العامّي البسيط، لكنّي أستطعتُ الأمساك بفكرة في كتابه Dependent Rational Animals والذي كما يبدو على عنوانه، يركّز على فكرة مهمّة، وهي أنّنا كمخلوقات نعتمد على بعضنا، في الطفولة والكهولة، وحتّى في لحظات كثيرة في حياتنا، ماكنتاير كان يبني فلسفته على هذه النقطة ويقول، لو نسينا أن ننتبه لأجسادنا وبشريتنا، فهناك احتمالية أن ننسى هذه الصلة التعاونية بيننا وبين الآخرين، ولو نسيناها سنكون أقرب للتخلِّي عن الفضائل التي تجمعنا بهم.

ماكنتاير ما كان يفكّر أصلًا بالعالم الرقمي، لكنّي عندما أقارن كلماته بهذا العالم، أشعر بهذه القرابة! العالم الرقمي يُشجّعنا على أن ننسى أجسادنا، نسيان هذا يُنسينا الصِلات بين البشر، ممّا قد يُنسينا كثير من الفضائل.

اذا نسينا انفسنا، سننسى أننا نعتمد على الآخرين أحيانًا، سننسى أن نكون متعاونين، متواضعين، صابرين على أخطاء الناس، راحمين لزلّاتهم فينا.

عندما يشجّعنا العالم الرقمي على أن ننسى أجسادنا، سنتصرّف كما لو أننا لا نحتاج لأحد، وكيف يتصرّف المُستنغي مع بقية الناس؟ وكيف سيتصرّف لو أساءوا له؟

أما ترى هذا العالم الرقمي في فيسبوك وتويتر، يعجُّ بأناس يقولون لأناس من لحمهم ودمائهم وأوطانهم، يقولون لهم كلمات ما كانت تُقال لو اجتمعوا على نارٍ، وتخاصروا في اجتماع؟

عندما تُحادث شخصًا تعرفه في الانترنت، فأنت تتّكئ على ذكريات كثيرة عندك عن صوته ولغة جسده وسماته، لكنّك لو تحدّثت مع غريب، فلا توجد بينكما ذكريات، ولا ذكرى أجساد، ستصبح الكلمات هي الجسد، قد يفسِّر هذا لماذا قد نقول للغرباء أشياء ما جرُؤنا عليها في الواقع.

عندما تحدّق في الخطوط التي شكّلت أطراف العيون، شكل الفم، نموّ الشعر، لم يعد بالأمكان أن تكره، الكُره كان فشل تخيّل ليس إلّا. -غراهام غرين، القوّة والمجد