في كتابه "وطن الراشدين"، اختار الكاتب عمرو عبدالعزيز أن ينقُل لنا (الحياتية) لعملية التفكير عنده، بكلِّ ما فيها من استرسال واتقاد وصدقيَّة في نمط كتابة غير مُكرَّر في التعاطي مع القضايا الفكريَّة، بحجم قضية الإسلام والديمقراطية، والإسلام والدولة الحديثة، وغيرها، فلم يكن يتَّكئ في عرْضه لأفكاره على عكازة الشياخة، ولم يضع حول عنقه (بابيون) الأكاديمية، ولم يبتغِ منصة، إنه يُحدِّث جمهوره وهو واقف بينه، بخطابٍ (تزامنيٍّ) طازَجٍ تسمح له روح الزمالة بالاتصال والتراكم، معاديًا فيه أفكارًا أكثر منه معاديًا لأحد، مركِّزًا على تجميع الناس على منظاره أكثر منه مُفرِّقًا لهم عن مناظير الآخرين.
الكتاب يغلِب عليه الرُّوح الطلقة والتلقائية للمدوَّنة، وهو أسلوبٌ في الكتابة يستقبله القارئ باعتباره أسلوبًا سهلاً ميسورًا، ولكن واقع التنفيذ أثبت للكثيرين من الدخلاء ممن حاولوا ادعاء هذا النمط فشلاً ذريعًا، فعادوا بخُفَّي حُنين، تاركين هذه الصَّنعة لأهلها، وكاتبنا هو واحدٌ ممن سيطروا على أدواتهم في هذا الشأن سيطرةً عالية، وأنشأ صداقةً عميقةً بينه وبين هذا النمط من التعاطي مع الكتابة، وبقدر ما كان رشيقًا تجنَّب الخفة، وبقدر ما كان مثيرًا حافظَ على أن يكون ثريًّا.
وتظهر بشكلٍ ملحوظٍ تلك الآثار الطبيعيَّة لانطلاق الكاتب بمعية جمهورٍ يقاسمه أفكاره حتى لو تَسلَّل بين حشده بعض المخالفين، ومن ضِمن هذه الآثار: الشجاعة في الطرح، وربط ما هو مستقرٌّ بما هو آنيٌّ، والحرص على فنِّ الصدمة، وإعطاء أولويةٍ للذوق الشخصي والخيارات الخاصة، واللعب في الأوزان النسبيَّة للمسائل وفي التراتبية بشيءٍ من التبديل والتصرف، وهو ما يتَّفِق ورُوح التقنية العصرية التي وفَّرت الإمكانية للتحكم المُدهِش في الصور عبر الحاسوب، تحطيمًا لما استقرَّ عن جمود الصورة، وللفكرة المستقرة عن أهمية وضع كل شيءٍ في محله، وضد الفكرة الكلاسيكية الأنيقة التي بموجبها يتم ترقيم الطاولات والكراسي بحيث يكون لكل شخصٍ موضِعه، لذا وبتكبير بعض الأجزاء في المشهد، وتصغير البعض، وقص البعض، يمكن عَرْض الأمور بطريقة مختلفة، فيها نوعٌ من الانتقاء المقبول بسرِّ حيويَّته وقدرته على الكشف والتوليد.
وعليه، وبعدم الحرص على الأوزان النسبيَّة وبترقيم الكراسي، لا يبالي عمرو عبدالعزيز مثلاً لو امتَعضَ القارئ الأكثر نمطيَّة من الاسترسال النسبي في الكلام عن الكاتب (نبيل فاروق) في كتاب مكثَّف كهذا، يحاول رسم وترسيم وطن الراشدين، وهو كاتب تتجاهله فهارس الأدباء ذات الطابَع النقدي والأكاديمي، صارفةً نظرها عن شعبيَّته، أما عمرو عبدالعزيز فينظر إلى حجم تأثيره، ويُقدِّم ذوقه الخاص كما أسلفت، وهذا يَنسجِم تمامًا مع رُوح الكتابة الحديثة غير المتحفِّظة، التي من ضمن المتعارف عليه فيها (هذه مساحتي أكتب لنفسي فيها بالأساس)، وإن لم يكن كاتبنا ممن تعسَّفوا في استخدام هذا الحقِّ الشبكي، وظل محافظًا على مستوى طيب الموثوقيَّة والمسؤولية بينه وبين جمهوره.
وبالرغم من جسامة الملفات التي حملها ولم يُشفِق منها، ورغم خطورة ما فصل فيه، فإن الكاتب حضر بغير أي حيلٍ تمويهيَّةٍ على الروح المباشرة والتلقائية التي سيطرت على نهجه في الكتابة، لقد كان الكاتب في حالة إقدامٍ شبابيةٍ ذكيةٍ على عرْض ما يجول بخاطره من خلال ما يقارِب البثَّ المباشر حميمية واندفاعًا وبداهةً، لقد بثَّ ما لديه لقرائه متجاوزًا تلك المرشحات الضابطة التي يتم تمرير الأفكار والقناعات فيها، للدرجة التي تَصِل في بعض الأحيان إلى تحويل الكتابة إلى تواطؤٍ مُتقَنٍ لصنع الانطباع المتبادل بين الكاتب وقرائه.
لقد كان هذا الكتاب أحد أكثر الكتب التي قرأتها في الفترة الماضية جسارةً وبُعدًا عن البيروقراطية في صنعة التأليف نفسها، ولم يكن صاحبه يتَّبِع آداب الاستئذان فيطرق باب القضايا الهامة المختلف عليها ثلاث مراتٍ قبل أن يدخل، بل كان يدخل مباشرة، بروح صاحب البيت الخالية من التكلف، وبثقةٍ تامةٍ في سلسلة مفاتيحه؛ هذا لأن الإقناع لدى الأستاذ عمرو عبدالعزيز لا يتأتى من خَلْق حالة انقباضٍ لدى القارئ بالدخول البطيء والمهيب للمواضيع، فهو يَعبُر إلى رصيف النقطة في الناحية الثانية سيرًا على القدمين، ومارًّا بين السيارات خلال الإشارة المفتوحة، ومع ذلك فهو مُنتَبِه تمامًا وعلى وعيٍ كاملٍ بما يفعل، إنها خطوات رجلٍ منطلقٍ وعلى السجية لا يعبأ بالكاميرا، ومن المثير أن الكاميرا تحب هذه الخطوات.
الإقناع لديه يتأتى من عدم التوتر وعدم الحشد الضخم للأدلة في شكل مذكرةٍ قانونيةٍ أو منطقيةٍ جامعةٍ مانعة، وهو ما يمكن أن نستنتج منه أن الإقناع قد يأتي أحيانًا من عدم الاستماتة في إقناع أحد، ويتأتى الإقناع كذلك من تقديمه عرضًا غير مراوغٍ لأفكاره يَنسجِم فيه مع ذاته باعتباره القارئ الأول، نعم، باعتباره الأول، وهذا شيء لا يَحرِص عليه كل كاتب، فالكاتب أحيانًا ما يَكبت القارئ فيه وهو يكتب، إنه يطرح قناعاته ورؤاه وأحلامه الكبرى، يطرح ببساطةٍ وبغير تعنُّت، وبغير استحضارٍ للرُّوح المجادِلة؛ مما يمكن معه النظر لمشروعه في الكتابة كامتدادٍ - بغير تقليد - للتأملات الفكرية للدكتور مصطفى محمود، التي تجعل من التفكير أمرًا بسيطًا ومنتِجًا وقابلاً للتداول، والتي ربما يُغايره فيها عمرو عبدالعزيز بمزيدٍ من الجسارة في الاقتراح التي وفَّرها العصر، إنه يجعل من الاقتراح شيئًا مُحلّقًا وخفيفًا وزاهيًا، مثل طائرةٍ ورقية، مكتوب عليها: (لمَ لا؟).
كتاب عمرو عبدالعزيز في وجهٍ من وجوهه هو محاولةٌ لتخليص الأمة من تقدير الأشياء التي تتلقَّى تقديرًا بقوة وجودها واعتياد الجماهير لها، وهو محاولةٌ لإلقاء الضوء على الخدعة التي تَكمُن في الأشياء والصور الماثِلة، وهو ما قد يُسبِّب إزعاجًا لدى البعض كذلك الذي يحدث عندما تُعيد قراءة الصورة لهم بحذقٍ لتكشِف الخدعة البصريَّة، إذ يفضل البعض الاحتفاظ في ذهنه بوهم الصورة عن أن يستوعب حقيقتها العارية.
وكتاب عمرو عبدالعزيز هو في وجهٍ من وجوهه وقفة وعيٍ أمام السحرة المبهرين لعالمنا الإسلامي بعروضهم الغريبة والمتجددة والمخطَّطة جيدًا، ليست من أجل التمتع بالعرض والتماهي في زخمه، وليست من أجل الانسحاب السلبي منه اعتراضًا على السخافات الضخمة والمكلِّفة، بل هي وقفة وعي من أجل كشْف خفَّة اليد، ولأجل شيءٍ مُنغِّص: وهو مصارحة الكثيرين منا - نحن المستضعفين المنبهرين ممن أصابهم الضغط النفسي للعَرْض المُحكَم - بأن الساحر قد أخرج الأرنب من جيوبنا.
يؤمن الأستاذ عمرو عبدالعزيز بأن الساحر قد أخرج الأرنب من جيوبنا عندما آمن كثيرون من ذوي الخلفيَّة الإسلامية الراسخة بأن الديمقراطية الغربية هي أفضل ما هو متاحٌ لنا، بين من صرَّح بهذا فعلاً وبين من عبَّر عنه بشكلٍ ضمني، وبين من قالت سلوكياته وردود أفعاله وخياراته مثل ذلك.
وهو يؤمن بأن الساحر قد أخرج الأرنب من جيوبنا، عندما تواضع كثيرون من ذوي الخلفيَّة الإسلامية الراسخة مع غيرهم على شكْل الدولة الوطنية الحديثة الحالية، التي تَفصِل بشكلٍ واسعٍ بين نفسها وبين المجال الحيوي للمسلمين، وآمنوا بأن دولة الخلافة قد ذهبت مع الريح بغير رَجْعة.
وهو يؤمن بأن الساحر قد أخرج الأرنب من جيوبنا عندما تعارَف قطاعٌ واسعٌ من الإسلاميين على قائمةٍ موحدةٍ لترتيب الأعداء، يشعر هو أن (الإيعاز) كان له دورٌ في صناعتها، وعليه، فالقاعدة العريضة من المتحمسين لها لا يُدرِكون أن القائمة التي تبدو محسومة الــ (شرعية) بالمصطلح الإسلامي، هي قائمةٌ يُمكِن النظر إليها باعتبارها تضليلاً قام على تعاونٍ مشتركٍ بين المواءمة والحماسة.
ومن ضمن الإيجابيات التي يمكن أن تحسب له في رُوح عرْضه أن القارئ يشعر شعورًا غريبًا كما لو كان الكاتب يترك له مساحةً مطويةً يمكنه أن يفردها ويؤكِّد بها على ذات الأفكار، ويُقدِّم أمثلةً أخرى وجيهةً ومقنعةً من عنده ويجترئ على ذلك ويشعر برغبةٍ في المساهمة، إن هذا (الجيب السحري) غير الموجود على ورق الطباعة، الذي يتركه الكاتب لتفاعل القارئ من خلال حيوية اللامتلاء وجاذبية البساطة لهو وصفةٌ خاصةٌ لتأليف كتابٍ أكثر ودًّا وحميمية.
وسواءٌ حدث الاتفاق معه على كل أفكاره أو بعضها، أو أصرَّ القارئ على ألا يرى الأمور على نحو ما رآها الأستاذ عمرو عبدالعزيز، إلا أنه يمكن الاعتراف له بالرغبة الصادقة لإحياء النقاش حول مواضيع الأمة التي يظن البعض أنها دُفِنت، وأنها لن تقوم كما يقوم طائر الفينيق من تحت الرماد، كما يمكن الاعتراف له بأنه رُغم اقتحامه أدغال الخلاف والأوجاع لم يكن محملاً بروحٍ عدوانيةٍ تُجاه إنسانٍ أو كِيان، لذا خلا كتابه مما يعيب بعض الكتب التي لجيل الشباب المتحمِّس الواعي من تهجُّمٍ وقسوةٍ لفظيَّة.
لذا يمكنني أن أرى كتابه في رفِّ هذا النوع من الكتب المطلوبة الجاذبة باعتباره خُطة فكريَّة معرفية جيدةً، تلتزم الكود الأخلاقي في أسلوب العرض والاعتراض.
التعليقات