قراءة في كارثة مفاعل تشيرنوبل ” ليكذبوا ما شاءوا أن يكذبوا على كل حال!

ولكن لا بد أن يأتي يوم تنفضح فيه الأكاذيب. ”

من رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي

ربما لو كانت مدينة بريبيات الأوكرانية في دولة أخرى تُحكم بنظام ديموقراطي سليم يتمتع بسقف عالي من الحرية والتعبير عن الرأي، لما تحولت حتى يومنا هذا إلى مدينة أشباح مهجورة بسبب كارثة مفاعل تشيرنوبل.

النجاح الساحق الذي حققه مسلسل شركة HBO الجديد Chernobyl – Série والتقييمات العالية التي نالتها حلقاته الخمس، خاصة الأخيرة التي نالت أعلى تقييم في موقع IMDb منذ نشأته، حيث نالت العلامة الكاملة 10/10 في سابقة لم تحدث من قبل، لم يأتي من فراغ.

الكلام عن جودة ودقة فنيات المسلسل من تصوير وموسيقى ومونتاج وكافة تلك الأمور أمر بديهي مع مسلسل من إنتاج HBO التي لا تبخل أبداً في الإنفاق على الأعمال التي تنتجها كي تظهر في أبهى صورة، لكن البطل الرئيسي من وجهة نظرنا هو الطريقة التي كتب بها كريج مايزن حلقات المسلسل الخمسة وأشرف على إعدادها برفقة المخرج السويدي يوهان رينيك، ليقدموها لنا في تلك الصورة المبهرة والمقبضة في آن واحد.

مايزن رأى أن السبب الرئيسي في كارثة تشيرنوبل لم يكن في الانفجار في حد ذاته، بل كان في تعامل السلطات السوفييتية الشمولية مع الحادث، فالحوادث قد تحدث في بعض الأحيان لأن الخطأ البشري وارد، لكن تدارك الموقف والتعامل معه هو الذي يصنع الفارق.

وفي حالة تشيرنوبل، فإن إحاطة السلطات السوفييتية الحادثة بسلسلة من الأكاذيب وتزييف الحقائق حتى لا تؤثر على سمعة الاتحاد الذي كان فعلياً في أرذل العمر ويحتضر، وعدم الاكتراث بسكان مدينة بريبيات وبقية المدن التي أثر فيها التلوث الإشعاعي الناجم عن الانفجار، هو ما زاد الطين بلة وجعل حادثة تشيرنوبل بهذا السوء.

” إن التضحية بحب الحقيقة، وبالأمانة الفكرية، وبالإخلاص لقوانين ومناهج الفكر من أجل مصلحة أخرى مهما كانت، حتى مصلحة الوطن نفسه، خيانة ”

هكذا قال الروائي الألماني هيرمان هيسة في أشهر رواياته (لعبة الكرات الزجاجية) التي عارض فيها سياسات الحزب النازي في أوج قوته وسطوته حيث صدرت روايته عام 1943، فخيانة الوطن لا تكمن فقط في التجسس والتخابر مع أعدائه، بل في إخفاء الحقائق وطمسها وتبديلها وتزييفها حتى لا تؤثر على هيبة الدولة، حتى وإن كانت هذه الدولة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وغض الطرف عما قد يعانيه سكان هذه الدولة والأثر الناجم عن كارثة بهذا الشكل ليس في حقهم هم وحسب، بل في حق أجيال كثيرة لاحقة ستتأثر بسبب هذا التعامل الأحمق مع كارثة من هذا النوع.

وهذا ما قصده مايزن في مسلسله، وما قاله من خلال شخصية (فاليري ليجاسوف) عبر الشرائط التي سجلها ليسرد فيها حقيقة ما حدث في ربيع 1986 في مفاعل تشيرنوبل، والتي حاول فيها إبراء ذمته وضميره أمام الأجيال القادمة، التي تأثرت فعلياً بسبب حادثة تشيرنوبل، والتي لن تنطلي عليها تلك الأكاذيب.

بعض النقاد يُرجعون أسباب نجاح المسلسل بهذا الشكل إلى أبعاد سياسية، كنوع من العداء المدفون تحت الرماد بين الولايات المتحدة وروسيا، خاصة أن الكثير من الدول الأوروبية تأثرت بالتلوث بالإشعاعي الناجم عن الانفجار الذي مازالت آثاره مستمرة حتى يومنا هذا في أوروبا، فتفاعل سكانها مع ما شاهدوه في المسلسل واحتفوا به لأنهم وجدوه يعبر عن معاناتهم ومعاناة أسلافهم الذين عاصروا هذه الكارثة.

ولعل الكنايات التي ضمنها مايزن مسلسله حول تعامل السلطات السوفييتية مع الحادث، والتي قد ترقى لمنزلة الخيانة، هي التي دفعت السلطات الروسية للسعي نحو إنتاج مسلسل عن كارثة تشيرنوبل، ستسرد فيه روايتها الخاصة عما حدث في ربيع عام 1986. لترد فيه عما جاء في النسخة الأمريكية التي تتعمد ترويج الأكاذيب من وجهة نظرها.

لعل حرباً باردة جديدة تلوح في الأفق، ولكنها هذه المرة في الدراما التليفزيونية.

في رأيكم هل يستحق المسلسل هذا النجاح الكبير ؟ أم أن للسياسة دخل في الموضوع ؟

المصدر