لكي نتكلّم بنجاح عن الفراغ، علينا أن نُلقي نظرة على الامتلاء، على إدمان العمل بشكل غير معقول أو مقبول في عصرنا الحديث الذي سيطر العمل فيه على كل جوانب حياتنــا، بحيــث أصبحنـا نقيّــم الأمــور وحتى الأشخاص من خلال المنفعة المهنية فقط وبتنا نعيش لنعمل، بدلاً من أن نعمل لنعيــش. وصارت المنافسة المهنيّة ملعبنا الأوّل والأخير والذي يطغى على الثقافة وكل أنواع المعرفة والترفيه، لتتوقَّع الشركات مثلاً ممن فيها من الموظّفين أن يعملوا لساعات طويلة من دون توقف. وصار “وقت الفراغ" مرادفاً للوقت المهدور، وكأن لا قيمة ولا دور له. فهل الأمر هو فعلاً كذلك؟

طبعاً لا! هذه قناعة رأسمالية بحتة عطّلت السكّة أو السكك الصائبة التي يجب أن تمشي الإنسانية عليها، واحدة من تلك السكك: العلم. ليسأل الإنسان اليوم سؤالاً وجيهاً: أين أجدُ الوقت لأعلَم؟ ويُحمَّل الناس الكثير من الملامات حين يسألون هذا السؤال المُحق والمشروع، ويُقال لهم: هل الوقت الفارغ هو المناخ الذي قد يُنتج العُلماء، العارفين، طُلّاب الحقيقة؟

من المهم أن نتذكَّر أن الإنجازات البشرية الأهم في التاريخ، أعظم الفنون لدينا، وأكثر الأفكار ثباتاً في الفلسفة والعلوم، والشرارة التي أطلقت عديداً من الإنجازات التكنولوجية، نشأت في أوقات الفراغ، في لحظات من التأمل غير المثقل، والانتباه المطلق للحياة.

وهناك الكثير من الأمثلة على هذا الأمر، الخمس سنوات التي كانت على سفينة البيغل التي أنتجت داروين، عالم الأحياء الأهم تقريباً، وهناك أديسون الذي استطاع القيام بإجراء عشرة ألاف محاولة قبل اختراعه لأول مصباح كهربائي، هناك نيتشه الذي كان قادراً على خطّ كل كتبه والتفكّر فيها بألوف الساعات، وحتى بين العلاقة التي صارت في فيلم the professor and madman بين مؤلف معجم أوكسفورد الشهير ومجنون في مصحّة كان ضابطاً سابقاً والأن مُتفرّغ لتعاطي الفن الذي لم يقنعه، ثُم القراءة التي أوصلته إلى ورقة دعوة للمشاركة في بناء صرح المُعجم وجمع كلماته وتطوّرها، فشارك بسبب فراغه وصبره، بأكثر من عشرة آلاف مقالة استحقّ بها تكريم حقيقي ووضع اسمه في الكتاب! 

حتى كلمة school (المدرسة) والتي كانت في أصلها يونانية وتُلفظ scola، كانت تعني قديما في يونانيّتها: "أوقات الفراغ"! 

هل تؤمن مثلي بأنّ الفراغ هو معمل العُلماء؟ وأنّ لا أمل بعُلماء في عصرنا الحالي بظلّ ثقافة إدمان العمل؟