فقط شاهد الفيلم.

تجذبني السينما الأسبانية في الآونة الأخيرة حتى إذا ما قارنتها بهوليوود أكاد أتقيأ، أرى صراحة أن عبقرية السينما الأسبانية تشبه في جوهرها عبقرية الأدب الروسي في نبوعهما من الأسى، وهذا الفيلم تجربة فريدة من نوعها لا يجب أن يفوتها إنسان على نفسه.

يبدأ الفيلم ببطلنا الذي يستيقظ في غرفة أسمنتية بسسطة مع رجل على الجانب الآخر من الغرفة، يبدأ في التعرف عليه، حتى يهبط من السماء مائدة طعام ينقض عليها الرجل ويشاهده البطل في صمت، وتستمر حياته على تلك الوتيرة في غموض يتعرف فيها على هذا الرجل وعلى المكان الذي يوجد فيه، ويكتشف انن مكون من طوابق كثيرة قد تصل لمالانهاية، وأنه كلما غصت أكثر قل الطعام الذي يصلك، ويستفز ذلك إنسانيته مرارًا حول هذا الظلم في التوزيع لأن كل شخص يأكل أكثر مما يستحق بل يلوث الطعام كذلك، فيا ترى ماذا سيفعل؟

أعلم أن حديثي عن الفيلم سيئ حقًا، ولكنه أفضل من هذا صدقني، -الآتي حرق- جمال الفيلم في نظري هو حديثه عن صراع الطبقات دون تجريد أو غيره، الفيلم بسيط جدًا، لا تفهم معنى الطبقات؟ حسنًا قسمت لك العالم لطبقات حرفيًا، من أعلى لهم كل الإمتيازات، ومن بالأسفل ملعونون، مع إضافة صغيرة لها فائدة عظيمة وهي "العدل"، العدل في العشوائية، فمن بالأعلى قد ينزلون أسفل سافلين الشهر القادم، وقد تنعكس الآية، وهو ما يبدو مخالفًا للواقع، ولكنه صراحة ممثل ممتاز للنظام الرأسمالي، وهو ما يوضح لنا هدف الفيلم الحقيقي وهو نقد النظام الرأسمالي القح كما هو نظريًا لا حتى عمليًا، حتى لا يقول البعض أن الرأسمالية جميلة ولكن الرأسماليون لا يعرفون كيف يطبقونها.

من سمات هذا النظام الرأسمالي عدالته العشوائية في توزيع الطبقات، فطبقتك لا يحددها أي فعل تفعله إلا العشوائية، ومن هم بالطبقات العليا يعاملون من هم أسفلهم أقذر معاملة بحجتين : الأولى أنهم كان يُفعل بهم مثل هذا، والثانية أنه لو انقلبت الآية لفُعا بهم مثلما يفعلون بغيرهم، وتبدو منطقية جدًا لمعتنقيها، فهي تعتمد على التاريخ والخبرات السابقة والغرائز الطبيعية حتى تترسخ كحقيقة في النفس، وما على من هم بالأعلى إلا أن يأكلوا ويعيشوا كل يوم كأنه آخر يوم في حياتهم، يأكلون ويتمتعون قدر الإمكان، والمتع المتوفرة أغلبها هنا الطعام وإهانة الآخرين، وعلى من بالأسفل أن يحاربوا للحفاظ على حياتهم، ولو اضطرهم هذا لقتل شريكهم بالغرفة وتناوله حيًا ليعيشوا لنهاية الشهر، لعل حظهم يقذف بهم في مكان أفضل، أو أسوأ؟ لا ندري...

هذا كان الجانب الأساسي من القصة، والدافع الأول لكل أفعال الشخصيات، وفيه يعرض الفيلم مشكلة الرأسمالية في قسوتها ومبدأ "اللا ثقة" في التعامل نع الآخرين، كما أنه يعرض إشكاليات أصغر مثل أن البطل رأى الإشتراكية والتوزيع العادل للطعام كاف الجميع حاجتهم، فالطعام يمكن أن يكفي الجميع، ولكن نجده في نهاية الفيلم يكتشف أن عدد الطبقات كان أكثر مما توقع، وأن الطعام المقدم لن يكفي كل هؤلاء، وهنا يرد الكاتب على من يرون أن المشكلة هي مجرد مشكلة داخلية، وأنه يمكن حلها مجتمعيًا بين الناس دون تغيير جذري في الإدارة، فالكاتب يرى أن من يظن أنه ٥ لتر من الماء يمكن أن يكفوا الجميع إذا ما استهلكنا المياه كل قدر حاجته وتركنا الباقي للآخرين، أن ما تفعله هراء، وهذا ما تصل إليه في نهاية الفيلم، وترى أن محاولات البطل في فرض "العدل" في توزيع الوجبات كل قدر حاجته لا معنى له... فإن كان هذا العدل مبنيًا على أن أي منا قد يكون في الطبقات السفلى يومًا فيجب أن يراعيها حتى ترعاه فأنا غير متيقن أن من بالطبقات السفلى إذا صعدوا فسيراعوني كما راعيتهم، هذه نقطة، والثانية أن الطعام هكذا هكذا لن يصل لطبقة معينة مهما فعلت، لأن الموارد نفسها قليلة، ومن يتحكمون بها يبخلون علينا بها، وهذا ينقلنا للمحور الأخير في الفيلم.

المحور الأخير في الفيلم هو الحل، ما الحل؟ يحاول الفيلم الٱجابة على هذا السؤال منذ اللحظة الأولى بالرموز الواضحة البسيطة، فالبطل الشاب رمز للمثقف المخلص الذي يقع على عاتقه أن يخلص الطبقات من بؤسها، والذي سيضطر أن يمر برحلة خطيرة يغير فيها أفكاره مرارًا وتكرارًا، فقد كان يرى أولًا التغيير بالإقناع ثم يكتشف فشله فيلجأ للعنف ثم يكتشف فشله فيلجأ للرسالة الأسمى، وهذه بها تفصيل أكبر، هذا هو بطلنا، إنسان من الدرجة الأولى جلب كتابًا دون كيشوت إلى تلك الأرض الملعونة، على النقيض يشاركه الغرفة رجل كبير في السن غير مثقف لا يعرف من هذه الدنيا إلا خبرته، فهو أقدم منه في هذه الطبقات وأكثر علمًا بها منه، تدفعه الغرائز التي تدفع أغلب من هم في هذه الكبقات، غريزة النجاة، ولو اضطر أن يأكل صديقه في تلك الزنزانة الحقيرة، جلب معه "ساموراي لابلاس" القادر على قطع أي شيئ، كأي عاقل يعلم أنه ذاهب لمعركة للنجاة، فلن تقتل أسدًا بكتاب دون كيشوت.

ثم المرأة التي كانت تعمل مع الإدارة وهبطت لتشارك في اللعبة، وهي تمثل رموزًا كثيرة، منها انها تمثل أفكار الكاتب القديمة، التي يواجهها ويكتشف مدى سذاجتها مع إيمانه بطيبتها، وتمثل ما قد يحدث لفرد من الإدارة و"الطبقة فوق الطبقات" عندما يرى ما عمل طيلة حياته مؤمنًا به ينهار أمام عينيه، فالنظام التي كانت مؤمنة بنجاحه اكتشفت مدى ظلمه وإجحافه، وهذه نقطة مهمة، فكثير من الإداريين أو ممن هم في "الطبقة فوق الطبقات" يقنعون أنفسهم أن أفعالهم صحيحة، وأن المشكلة في الطبقات وفي الأشخاص لا في النظام الذي وضعوه لهم، منهم من يعرف حقيقة النظام وفشله ويقنعون أنفسهم أيم اقتناع بفلسفتهم وأنه ليس خطأهم أو يسكتون أنفسهم عن ذلك ببعض النجاحات كل فترة، وهم صفوة الإداريين، والبعض الآخر ممن يعمل لدى الإداريين لا يعلم شيئًا عن قبح النظام، ولا يعلم سوى النجاحات الكثيرة التي يحدثهم عنها الإداريون، وهم العاملون في "الطبقة فوق الطبقات" ولا يكتشفون الحقيقة المرة إلا بمشاركة تلك الطبقات، وكانت تلك المرأة المسكينة منهم، وهنا بدأت تتفتق في ذهن البطل وسيلة الخلاص، وهي تغيير العاملين بالطبقة فوق الطبقات، فهم ما زالت لديهم ضمائرهم، وهم من يستطيعون التغيير، وهنا تتضح فلسفة الفيلم في التغيير -التي سنلخصها في النهاية- وهي التغيير من أعلى، فالكاتب فاقد للأمل في التغيير من أسفل، ومن داخل الطبقات، فهو يرى أي محاولة لذلك غير منطقية ولا فائدة منها في مواجهة غريزة البقاء، ولكنه يرى تنوير النخبة التي تعمل لدى "نخبة النخبة" وهذه الفئة يجب أن تكون موجودة دائمًا لأن "نخبة النخبة" لا يستطيعون فعل كل شيئ بأنفسهم، فاستعانوا بتلك النخبة التي تبقى فيها من الإنسانية الكثير وإن كان إيمانها بالنظام فظيع، فوجب كسر ذلك الإيمان برسالة تهبط عليهم كالصاعقة، ولا يمكن أم ننزلهم كلهم للطبقات ليعايشوا مدى قبحها، فهكذا سيموتوا جميعًا أو سيتغيروا إلى اللا رجعة، وهنا يبدأ الفصل الأخير من المرحلة الأخيرة في الفيلم، وهو البحث عن الرسالة وتوصيلها.

هنالك رموز أخرى مثل: المرأة المتوحشة، نسيت اسمها صراحة، وهي رمز للمرأة عمومًا ومدى الظلم التي تتعرض له، فهي تجوب الطبقات كل يوم بحثًا عن طفلتها الضائعة الخيالية، فالإدارية تقول أن لا أطفال في الكبقات، فهم لا يسمحون بتواجد من هم أقل من ١٦ عامًا في ذلك المكان الموحش، وهي تتعرض للإعتداء من الناس حتى تتوحش وتصبح قاتلة متوحشة كرد فعل للإعتداء الذي تعرضت له، ورمز آخر هو الرجل المؤمن، الذي يؤمن بالإله ويرى الجميع يؤمنون به ويتخذه وسيلة لنجاته، فيعد الناس بالنعيم الأبدي مقابل مساعدته، والنتيجة تكون أن إيمانه هذا يتحطم بما يقابله به أصحاب الطبقات العليا من استهزاء وسخرية مقززة، فيريك أثر الرأسمالية السيئ على الإيمان، فأين الإله من كل هذا؟ وهو من سيصحب بطلنا في الفصل الأخير في رحلتهم لتوصيل الرسالة، وسيتغير فيها ليؤمن بالعنف وسيلة لإيصال الرسالة، فسيقتل هو والبطل الكثير من الناس من أجل إيصال الرسالة التي يؤمنون بها أشد الإيمان، ورمز آخر هو الحكيم، وهو شيخ مقعد، يرمز لكبار السن في مجتمعنا وما لهم من فضل، فوصفه بالحكمة، وكان هو صاحب فكرة إيصال رسالة للعاملين في الإدارة وفي الطبقة فوق الطبقات لأنهم ما زالوا يملكون ضمائرهم، وكانت فكرته ساذجة قليلًا، فكانت الفكرة هي إيصال طبق مميز من الطعام دون أن يلمسه أي أحد، الرمز الذي ما يلبث أن يغيره البطل قرب النهاية كما سنوضح، وهو هنا يرمز لرؤية الكاتب لحكمة الأجداد، فحكمتهم مفيدة في الفكرة الأساسية وهي توصيل الرسالة التي اقتنع بها الكاتب من تجربته مع الإدارية الهابطة وما وجد عندها من ضمير، أمل تفاصيل الفكرة فمتروكة للشباب والمثقفين، فهم أفضل منهم في ذلك، فهكذا يعترف الكاتب للشيوخ والعجائز بجزء من الفضل ولا يهملهم تمامًا، ولا يعظمهم تمامًا.

والفصل الأخير يبدأ بمحاولة المؤمن والبطل أن يصلا الطعام لآخر الطبقات، فارضين العدل بالقوة، وهو عالاغلب رمز للثورة، ويغيرون طريقتهم الفاشلة تلك في رحلتهم لأسفل -فاشلة لأسباب ذكرناها بالأعلى- عندما يقابلون الحكيم، الذي يقترح عليهم وجبة مميزة كرسالة، فيدافعون عنها ويعانون الأمرين حتى يصلوا للقاع، ويجدون ما لا يتوقعونه، طفلة جائعة، تلك الطفلة التي كانت تبحث عنها المرأة المتوحشة، والتي نفت الإدارية الهابطة وجودها، وكانوا بين خيارين، إما الحفاظ على الرسالة وهي الطعام المميز، وإما إطعام الطفلة، ولم يتوانوا لحظة في تغليب إنسانيتهم على كل شيئ فأطعموا الطفلة، ثم تفتق في ذهنه - نتيجة عمليات ذهنية من خبراته المتراكمة- أن الفتاة هي الرسالة، وأن الأطفال هم الرسالة، هم من سيهزون الضمائر، ويحركون المياه الساكنة، هم الحل لمستقبل أفضل، فيرسل الفتاة الصغيرة مع المائدة لأعلى، ويبقى هو في القاع فمهمته قد انتهت، فلا حاجة له، وينتهي الفيلم هنا.

ومفهوم الطبقة فوق الطبقات مفهوم مهم جدًا، وأعتقد أنه لو لم تخرج من الفيلم إلا به لكان كافيًا -أحتفظ بحقوق الملكية الفكرية للمصطلح فلم يذكره الفيلم- فطيلة التاريخ -الرأسمالي على الأقل- هنالك طبقة لم تتغير مهما تغيرت للظروف والصراعات، لا أتكلم عن أن الأغنياء ظلوا أغنياء والفقراء ظلوا فقراء، فهنالك طبقة أعلى من الأغنياء تتحرك خفية دون أن يلحظ أحد، لم تتزعزع يومًا طيلة تاريخها، أنصاف آلهة، قد تتغير أسماء أعضائها ولكن أفكارهم واحدة ومذهبهم واحد ومصالحهم واحدة وقوتهم واحدة، فهم هكذا يمثلون طبقة فوق الطبقات، لا تخضع لقوانين اللعب التي تلعب على أساسها باقي الطبقات.

ومفهوم تراكم الخبرات مثله الكاتب بشكل ممتاز، فهو يتمثل في تفاعله مع شخصيتين أساسيتين، الإدارية الهابطة وشريكه الأول في الغرفة، اللذان يلتهمهما في إحدى الفترات من الجوع، وهذا الإلتهام والهضم رمز لفهمهم لأفكارهم التي ظلت تتكرر في رأسه باستمرار، فيجب على المثقف الذي يغير المجتمع أن يفهم الطبقة التي يريد تغيير أحوالها والطبقة التي ستحدث هذا التغيير حتى يحدث التغيير.

هكذا أنهي هذا الموضوع، لم أتخيله بذلك الحجم، في النهاية لو لديك رأي ما فلتقله، وإن لم تملك فيمكنك أن تذهب في صمت.