على الرغم من أنّ معظم أحداث العنف و القتال تحدث في منطقتنا إلّا أنّني موقن أنّ هذه الشعوب من أكثر الشعوب عاطفيّة من بين شعوب العالم ككل.

المقدمة هذه حضرتني فور التفكير بنظام اتخاذ القرارات عند الإنسان العربيّ، ألا و هو الانحياز الكامل لابن فكرته أو قوميّته، على الأقل هذا كان أنا القديم، كُنت انحاز لكلّ قضيّة عربيّة أو إسلاميّة بدون حتى القراءة عن القضيّة، هذا النمط من التفكير هو أحد العوالق التي تبقى مع اللاديني بعد تركه للدين فيبدأ بمعاداة كل قضايا الأمّة بدون حتى النظر إلى حيثيّات القضيّة.

في الغالب يحدث ذلك بسبب الاحساس بالخداع طوال سنين عمرك، الاحساس بالغبن و أنّك وُلدت في المكان الخاطئ من العالم (أنا أصف فقط ما يُشعره الإنسان عند تركه للدين، على الأقل ما شعرت به أنا).

بالفعل كانت أيامي الأولى كتارك للدين مليئة بإعادة الاتخاذ المواقف من القضايا الأخلاقيّة و حتى السياسيّة، لم أكن استثناءاً في نمط التفكير الساذج ذاك و أيدّت اسرائيل كدولة بشكل مطلق خصوصاً مع أخبار معالجتها للسوريين من الطرفين على الحدود.

و لكن هل اسرائيل بالفعل هي مهد العلمانيّة في المنطقة؟

العلمانيّة بادئ ذي بدء هي النظريّة السياسيّة التي "يؤمن" بها اللادينيّ أو معظمهم، و الدستور الاسرائيلي يهدم المفهوم العلماني في كلماته الأولى

اسرائيل هي دولة لليهود فقط

من التناقض تماماً انتقاد السعوديّة (والتي هي دولة للمسلمين فقط، المسلمين السنّة، حسناً السلفيين من المسلمين السنّة .. eh) و إيران و التغاضي عن كون إسرائيل هي الأخرى دولة دينيّة، و اختلاف الدين لا يجعلها أفضل من هذه الدولة من ناحية تطبيق النظام العلماني.

ربما مصدر هذا التناقض أنّ مشكلة اللاديني العربيّ تكون مع الإسلام بشكل مباشر، أنا شخصيّاً لم أكن أعلم بأنّها دولة دينيّة بهذا الشكل في أولى أيامي.

دولة ناجحة != دولة صالحة!

أحد أسباب التأييد لدولة اسرائيل هو التقدم التكنولوجي و الحضاري لها، على جميع المستويات، ستبدو للناظر من الفضاء بعدسة التقدم و الحريّات كنقطة مضيئة بين بؤر الفساد و الدم المحيطة بها و سيتساءل بسخرية "كيف أتت هذه إلى هذه البقعة من العالم".

لكن بالمقابل، ألم تكن ألمانيا النازيّة دولة العلم؟ ألم تكن حتى دولة حريّات للألمان أنفسهم كما اسرائيل دولة حريّات للاسرائيلين أنفسهم؟ ألم تستعن حتى أمريكا بمخلفات المجتمع العلمي النازي في مشروع أبولو (Wernher von Braun - عالم نازيّ) .

كون الدولة تقدمت حضاريّاً و علميّاً ليس كافياً لجعلها دولة صالحة و لو بدا ذلك للوهلة الأولى صحيحاً

حُكّامنا الكرام، الجزء الأكبر من المشكلة

لا أدري ما الحاصل في الدولة العربيّة الأخرى، لكن هنا في سوريا كبرت و أنا أسمع أنّ الدولة في حالة طوارئ و تشدد أمني بسبب القضيّة الفلسطينيّة و العداء مع اسرائيل.

الميزانيّات العالية التي كان تُرصد لتقوية الجيش كانت كلّها بسبب العداء مع اسرائيل، إن كان ذلك هو الحال في باقي الدولة العربيّة فاعتقد أنّه من أكبر أجزاء المشكلة، يوصلونك لمرحلة كره القضيّة من جذورها لأنّ كلّ أسباب تعاسة دولتك يعزونها لحالة الحرب الدائم مع اسرائيل!

النقطة الأهم أنّ ما شهدناه من مجازر في دولنا العربيّة بأيدي العرب أنفسهم جعل من مجازر الاسرائيلين تبدو كحفلات عيد ميلاد لنا، مع إجراميّة ما فعله الاسرائيليّون في عدة مواطن من التاريخ للإنسان الفلسطيني إلّا أنّ إجرامهم بدا صغيراً بالمقارنة مع إنجازاتنا في العراق، اليمن، لبنان، سوريا، ليبيا .. الخ.

عدوُّ عدويّ، صديقي

شخصيّاً لا أجد شيئاً اكرهه في الـ multiverse أكثر من المنظمات الإسلاميّة، خصوصاً العسكريّة منها كحماس و حزب الله و ذلك لاستغلالهم الإنسان العربي المسلم العاطفي تجاه قضاياه لتمرير سياسات و تبرير حيازة السلاح في دولة لديها جيش!

عندما ترى هذه التنظيمات العصابيّة تعادي اسرائيل، فأنت باللاشعور تميل للجانب الاسرائيلي على علّاته، و إلى الآن - مع موقفي الحالي - لا أعلم الإجابة إن خُيّرت بين دولة على حدودي يحكمها الاسرائيلين و أخرى تحكمها تلك الميليشيا.

الإنصاف

هذا قد لا يكون الرأي المُنصف، لكنّه الذي أراه كذلك الآن و هو الذي أتبناه الآن، اسرائيل دولة متقدمة و متطورة على جميع المستويات و أحلم يوماً ما تكون سوريا و باقي الدول العربيّة لها من التقدم و الديمقراطيّة ما هو نصف ما تملكه اسرائيل، أعتقد أنّنا كلادينيّون أو حتى المثقفون من المؤمنين نعيش حالة جفاف و عطش لأي تقدم حضاريّ أو مساحة حريّة و لو كانت بقدر مسير سحلفاة في ثانية.

هذا العطش طبعاً يولد الانبهار بكلّ ما هو مُتحضر و متقدم بدون النظر إلى جوانب القضيّة الأخرى، فكيف إن كانت الحضارة على حدود بلادك؟ لكنّ ذلك وحده لا يبرر تأييد كيان عُنصري بكلّ ما تعنيه الكلمة مثل اسرائيل و لا يمحو مجازرها بحقّ الإنسان الفلسطينيّ.

ما الذي يجب فعله حيال القضيّة الفلسطينيّة؟

الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي في الذهنيّة العربيّة بحاجة إلى تحرير بمفاهيمه كافة، المطالبة بإزالة اسرائيل تماماً من هذه المنطقة غير واقعيّة أو ممكنة على الإطلاق الآن.

نحن في بلادنا و من ضمنها فلسطين لم نستطع التعايش مع بعضنا البعض، تحولنا من شعب مُطالب بالسلام مع عدو في 1948 إلى شعب يحتاج إلى أن يعقد السلام مع نفسه أولاً! ولو أنشأنا دولة فلسطينيّة تحتكر السلاح و السلطة في فلسطين لربما كنّا قدمنا نموذج يستطيع العالم الوقوف معه في شتى المحافل و طالما بديل اسرائيل هو المنظمات الإسلاميّة فلا أعتقد أنّ القضيّة ستحصل على أي تأييد من الدول ذات المكانة في العالم فهل التعايش مع اسرائيل أصبح أمراً واقعاً الآن؟ و هل ترى التوقف عن المزايدة على القضية الفلسطينيّة سيجعل للعرب كشعوب موقفاً أكثر واقعيّة و صلابة منها؟ و ما هو موقفك كشخص من القضيّة؟

أتمنى في الأخير ألّا تُتخذ هذه المساهمة كمنصّة لشتم و تخوين تاركي الدين في أنحاء الوطن العربي فكما وصفت ذاك الموقف في العنوان، هو ابنٌ غير شرعيّ لأنّه مبنِ على قلّة معطيات أو عاطفة بحتة.