قرأتُ مقولةً لمصطفى السباعي، فتوقّفتُ عندها طويلًا، إذ حملت في طيّاتها حكمة عميقة تصف كيف تُبنى الدول وفق طبيعة العقول التي تديرها:

"عقل الفيلسوف يبني دولة في الهواء، وعقل القصصي يبني دولة فوق الماء، وعقل الطاغية يبني دولة فوق مستودع بارود، وعقل المؤمن يبني دولة أصلها ثابت وفرعها في السماء."

هذه الكلمات لم تكن مجرد تعبير بليغ، بل مرآة تعكس كيف تُصنع الحضارات، وكيف تُحدد طبيعة العقول مصير الأمم؛ بعضها يبني صروحًا تلامس السماء لكنها بلا جذور، وبعضها ينسج أوهامًا سرعان ما تتلاشى، وبعضها يُشيد قلاعًا فوق فوهة الخطر، فيما القليل فقط يرسّخ بناءً لا تهزه العواصف.

عقل الفيلسوف يعيش بين الفكرة والمُثل، يبني دولة في الهواء، حيث تكون القوانين مثالية، والنظريات سامية، لكنها تظل بعيدة عن أرض الواقع. إنه يرسم مدنًا فاضلة، محاطة بأفكار عظيمة، لكنها قد تبقى مجرد أطياف، لأن ما لم يُجذّر في الأرض، لن يصمد في وجه الرياح.

أما عقل القصصي، فهو يحيا بين سطور الخيال، يبني دولة فوق الماء، جميلة في ظاهرها، عائمة فوق الأحلام، لكنها بلا أعمدة تسندها. تغمره الأوهام، فتبدو له كحقائق، لكنه يغفل أن الأمواج لا ترحم السفن التي تفتقر إلى مرساة، وأن القصص وحدها لا تصنع الأوطان.

وفي الجانب الآخر، عقل الطاغية يُنشئ دولته فوق مستودع بارود، مُعتقدًا أن السيوف تحرس المُلك، وأن الحديد والنار يصنعان الاستقرار. لكنه ينسى أن الخوف ليس ولاءً، وأن الشعوب المقهورة كالجمر تحت الرماد، تنتظر ريحًا تُشعلها. فمهما طالت سطوته، سيظل البناء هشًّا، وسينهار بمجرد أن تنفجر الشرارة الأولى.

أما عقل المؤمن، فهو الذي يغرس جذور دولته في الأرض، ويمد فروعها نحو السماء. يُقيم بناءه على العدل، ويرويه بالقيم، ويحصّنه بالإيمان. فهو يدرك أن الأمم لا تُشاد بالقوة وحدها، ولا تُحكم بالوهم، بل تُبنى بالحق، وتصمد بالعدل، وتزدهر حين يكون أساسها ثابتًا، لا تزعزعه العواصف.

وهكذا، تتعدد العقول، وتختلف الرؤى، لكن الحقيقة تبقى واحدة: ما في الهواء يتبدد، وما على الماء يغرق، وما فوق البارود ينفجر، أما ما جُذّر في الأرض، وسُقي بماء العدل، فيبقى، ويثمر، ويعلو فرعه في السماء.

فأي العقول تسيطر على واقعنا اليوم؟ وهل يمكن لعقل حكيم أن يجمع بين الفكر والعدل والقوة، ليبني دولة تصمد أمام اختبارات الزمن؟