لا يمكنك أن تُشفى في نفس البيئة التي جعلتك مريضاً.. غادر.. لـ"ديستوفيسكي"
نعرف تماماً مقولات الأديب الروسي والتي تُعد من أهم المقولات التي تلامس روح الإنسان.
يطرح كلام ديستوفيسكي تساؤلاً حول البقاء في البيئة التي تسببت بالأذى لنا، يقول لنا بصراحة هل بوسعك التشافي في مكان تسبب لك بالأذى وهذا المكان دُعي وطناً، والمضي بالحياة قدماً في بلد سُلبت منه مقومات الكرامة.
أيضاً ما الذي يضمن التشافي في مكان آخر وما الذي يضمن عدم وجود مشاكل في المكان الجديد؟
أيهما تفضل أنت؟ مقاومة بيئة غير جيدة كتحدي أو الانتقال لمكان أفضل؟
عبر التاريخ قال الأمام علي بن أبي طالب "ليس هناك بلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك".
لست أعلم تماماً في أي سياق قالها رابع الخلفاء الراشدين "عليه السلام"، لكن أظن أن معناها يُعزّي من يعيشون في بلاد تئنّ بالأحمال والصعوبات، فهي تعني أن هناك الكثير من الاحتمالات للعيش، والكثير من الأماكن، أرض الله واسعة وفي منتهى الترحاب.
المثير للتفكير هي أن هذه العبارة مخالفة لما تربينا عليه، فقد تربينا على حب البلاد، والفخر بالانتماء للأرض وحتى الموت في سبيل حمايتها.
تراودني الكثير من الأسئلة هل قيمة الوطن شيء نسبي إن هو أحسن لمواطنيه أحبوه وإن أساء لهم كرهوه؟
ظاهرة الهجرة نشاط إنساني قدیم قدم المجتمعات البشریة، فمنذ إدراك الإنسان لِذاته وطموحاته وهو ینتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن فرص الحیاة والعیش الرغيد والأمن.
يشكل التفاوت بين البلدان في المستوى الاقتصادي والحضاري والثقافي مشكلة تجعل شباب البلدان النامية تبحث عن مكان أفضل خارج موطنها، بحثاً عن فرصة عمل أو بحثاً عن مستوى معيشة أفضل، أو ثقافة مختلفة تقارب تطلعاتهم إلى حياة أكثر رقيّاً وحريّة، والوجهة في غالب الأحيان هي دول الاتحاد الأوروبي، هذه الدول التي من الممكن أن يبدأ فيها المهاجر برسم ملامح المستقبل بالشكل الذي يطمح إليه.
في ظل الصعوبات التي يواجهها الشباب الذين يبحثون عن فرص أفضل للعيش، تصبح الهجرة غير الشرعية حلاً ممكناً لأولئك الذين يمنعهم القانون من السفر إلى بلدان معينة، أو لأنهم يعجزون عن تحمّل تكلفة السفر بصورة رسميّة، وصعوبة ترتيباته، ما يودي بالكثيرين ليسلكوا الطرقات غير الشرعية للهجرة.
بالنسبة للبلدان المُستهدفة أو المقصودة للهجرة فيشمل الأشخاص القادمين إلى هذه البلدان بطريقة غير قانونية، أو يأتون بطريقة قانونية ولا يخرجون من البلد ضمن المدة القانونية المسموح لهم البقاء في إطارها. إلا أن المصطلح يرتبط أكثر بحالات تهريب المهاجرين بطريقة غير شرعية/ قانونية.
تُعدّ منطقة البحر المتوسط منطقة نموذجية لملاحظة هذه الظاهرة، إذ تعد نقطة عبور من شمال إفريقيا ودول الساحل نحو أوروبا، ففي البلدان المغاربية "ليبيا، الجزائر، تونس، والمغرب"، هذه الظاهرة هي امتداد لتاريخ طويل من سياسات الهجرة التي انتهجتها الدول الأوربية منذ الحرب العالمية الأولى.
تعود جذور الهجرة إلى الحرب العالمية الأولى حيث أدّى توافد المغاربة نحو أوروبا إلى إعادة تشغيل المصانع المشلولة والانضمام للجيش، وتطورت عبر فترات تاريخية لتتحول ظاهرة الهجرة غير الشرعية للبلدان الأوربية أزمة.
بالمقابل تبقى الهجرة غير الشرعية من البلدان الشرقية "سوريا، لبنان، فلسطين، والعراق" نحو أوروبا بسيطة مقارنة بنظيرتها المغاربية على الرغم من وجود الدوافع نفسها.
أسباب الهجرة.. والأخطار المحدّقة بها
تأتي الحروب في مقدمة الأسباب التي تكثر فيها الهجرة غير الشرعية، ففي الحرب يفقد المرء أمانه وربما بيته وأهله، فيبحث عن ملاذ آخر قد لا يتوفر اللجوء إليه بالطريقة القانونية (على سبيل المثال هجرة السوريين عبر البحار إلى أوروبا).
الفقر من أبرز الأسباب وأهمها، فأكثر المهاجرين ممن يبحثون عن فرص عمل خارج بلادهم من الفقراء الذين لا يقدرون على سد تكاليف السفر القانوني، لذلك يلجؤون للوسائل غير الشرعية لحل المشكلة بغرض البحث عن حياة أفضل أو العمل في مجالات غير شرعية وغير مرخصة.
"شاحنة برلين" رواية تحكي عن طريق الآلام
في رواية ألفها الكاتب العراقي "حسن بلاسم" وسماها شاحنة برلين وهي مستوحاة من وقائع حقيقية،
أبطالها خمسة وثلاثون شاباً عراقياً، كانت شاحنة لتصدير الفاكهة من اسطنبول إلى برلين، هي طوق النجاة الذي علقوا أحلامهم عليه.. قضايا كثيرة طرحها بلاسم في روايته " شاحنة برلين"، يستعرض فيها العنف الذي يتعرض له الشباب العراقي على الحدود أثناء محاولتهم الهرب من واقع مزري إلى واقع مظلم باحثين فيه عن بصيص نور ينسيهم الآلام والمعاناة في وطنهم ليتحولوا إلى لاجئين في بلاد غريبة وتبدأ رحلتهم في برلين.
مِمّا هربوا وأي مصير مجهول ينتظرهم؟ كلمات سطّرها "بلاسم" في روايتة، ولكنها انعكاس لواقع مرير ومعاناة شعوب بأكملها.
هل الأمر يستحق كل هذه التضحية!
في كل عام يحاول آلاف الأشخاص الفارين من الحرب والاضطهاد والفقر في البلدان النامية القيام برحلة عبر البحر الأبيض المتوسط وذلك للوصول إلى أوروبا. فُقدت أرواح لا تعد ولا تحصى في الطريق، عانى الكثير من المهاجرين في طرقات الهجرة غير الشرعية، والجميع يسعى إلى حياة أفضل وأكثر أمناً.
يمتلك أغلب الشباب العربي الرغبة في ترك أوطانهم والهجرة منها إلى البلدان الأوربية، وهم على وعي كامل بالأخطار المحدّقة في طرقات الهجرة على اختلافها والتي تُعتبر نوعاً من الاحتراق، وهذا هو التعبير الذي تطلق عليه عملية التهريب إلى البلاد الأوربية في المغرب العربي، حيث يطلق على عملية عبور البحر بطريقة غير قانونية "حرّاقة" ومن يقوم بها "الحرّاقون"، وأصل الكلمة من اللهجة الجزائرية وهي أن المهاجر غير الشرعي كان لما يصل للقارة الأوربية يقوم بحرق الأوراق الثبوتية من جواز سفر وما شابه ذلك حتى لا تتمكن سلطات الهجرة من طرده لبلد إقامته فتضطر لإطلاق سراحه.
تتعدّد الأسباب التي تدفعهم لركوب هذه الطرقات الخطرة والمجازفة بحياتهم، ولكنها تصب في خانة الهروب من واقع بلادهم، البلاد التي أنهكتها الحروب والفوضى والأزمات الاقتصادية.
يبيعون بيوتهم ويستخدمون مدخراتهم "تحويشة العمر" لاستئجار مُهرّب، وينطلقوا محاولين الهرب من واقع مزري إلى واقع ربما يكون مشرقاً وربما يكون مظلماً، باحثين في هذا الواقع الجديد عن بصيص نور ينسيهم الآلام والمعاناة في وطنهم، أو على الأقل يدّعون أنهم نسوا ليتحولوا إلى لاجئين في بلاد غريبة، لتبدأ رحلتهم في أوروبا.
بلغ عدد المهاجرين غير القانونيين خلال العقد الأخير مليون مهاجر وصلوا أوروبا، 80% منهم عبر اليونان فقط، 5%عبر اسبانيا 4% عبر إيطاليا، والوجهة الرئيسية هي بلدان الاتحاد الأوروبي.
تُعد اليونان وإيطاليا من البلدان التي تعدّ جسوراً رئيسية للعبور إلى أوروبا، وحاولت الدول الأوروبية بالقضاء على الهجرة من خلال تعزيز الحدود الوطنية وتعزيز مراكز الاحتجاز خارج حدودها، ما دفع الناس إلى أيدي المهربين حتى يعبروا نقاط التفتيش والحدود ويتجاوزوا السياج ويخرجوا من السجون ليصلوا في النهاية إلى قوارب تقودهم عبر البحر الأبيض المتوسط، يغرق عبر هذه الرحلات عدد ليس بقليل كل عام ففي عام 2021 لقي نحو 1000 شخص حتفهم أو فقدوا،
وبالنسبة لأولئك الأشخاص الذين يصلون إلى أوروبا، فإن التحديات والمخاطر التي واجهوها تبدأ مرة أخرى فور وصولهن إلى اليابسة. فعدم وجود مأوى، وإجبارهم على العيش في ظروف غير صحية أو في ظروف مناخية سيئة، وعبور الحدود الغدارة، ومواجهة السلطات المعادية، تدفع الكثير من الناس إلى المرض او الإصابة أو مواجهة مشاكل في الصحة النفسية.
اعتمد هذا المقال على آراء كاتبه الذي يفكّر ضمنياً بالهجرة من وطن أحبه حبّاً كبيراً ويؤمن بكلام نزار قباني وما قاله:
كـم مبحـرٍ.. وهموم البر تسكنه، وهاربٍ من قضاء الحب ما هـربا
التعليقات