الدين عند أغلب الناس مبني على الاختلاف، أي أن معتنقي الدين الواحد يمكنهم الإيمان بأشياء مختلفة تصل إلى التناقض في أغلب الأحيان، سواء قضية تحريم وتحليل، أو الاعتقاد بصحة شيء غيبي وعدم الاعتقاد بصحته ... الخ

منذ قليل قرأت موضوع لأحد الأشخاص يدافع ويرد على منتقديه الذين يقولون أنه يميل لآراء دينية غير مجمع عليها من قبل علماء الدين وأنه يجب أن يلجأ إلى أهل الذكر، فيقول أنه حتى عندما يميل لقضايا دينية مخالفة لأغلب العلماء فهو يأخذ أيضاً بكلام "أهل الذكر"، ولذلك ليس على أحد انتقاده بأنه لا يسمع إلى آراء أهل الذكر، لأن جميع الآراء هي من قبل أهل الذكر والدين ليس حكراً على جماعة بعينها وأن الشخص حر في اختيار الآراء بما يتناسب مع أفكاره وقناعاته ومنطقه الشخصي.

ثم أشار إلى أنه يدرس العلوم، وطبيعة دراسته توجب عليه إجراء البحوث على أسس علمية بحتة، وبذلك فهو لا إرادياً يميل إلى الأفكار الدينية القريبة من العلم والمنطق مهما كان الإجماع على غيرها، ثم ختم حديثه بتوضيح غاية في الأهمية، وهو أنه يحاول قدر الإمكان التوفيق بين الدين والعلم -رغم صعوبة المهمة- وذلك لكي يظل ثابتاً على إيمانه.

الحقيقة أن الكثير من المؤمنين الذين يسمون أنفسهم غير متشددين يفعلون الأمر نفسه (وأنا كنت منهم)، يريدون تأويل الدين على حسب نظرتهم للأمور، وينجحون في ذلك وينطلق إيمانهم بناءاً على ما توصلوا إليه وأرضى عقولهم ومنطقهم الشخصي، والغاية من كل ذلك هي أن لا يفقدوا إيمانهم!

صراحةً أجد في هذا الأمر مشكلتين:

  • المشكلة الأولى: ما الذي يجبرك؟ إذا كان الدين في جوهره مناقض لمنطقك، وأغلب مقتنعيه مؤمنون بهذه الأراء، وأغلب "أهل الذكر" مجمعون على آراء تناقض ميلك الشخصي، فلماذا التمسك بالدين ومحاولة تأويل كل شيء لكي يتوافق مع منطقك؟ في النهاية ستجد أنك كوّنت دين جديد خاص بك، وغيرك كوّن دين خاص به، وبذلك فليس هناك دين واحد، بل عدة أديان لكل شخص حسب هواه. والسؤال هو أليس ذلك انحيازاً تأكيدياً؟

الانحياز التأكيدي هو الميل للبحث عن، وتفسير، وتذكُّر المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد، بينما لا يولي انتباهًا مماثلًا للمعلومات المناقضة لها. هو نوع من الانحياز المعرفي والخطأ في الاستقراء. يُظهر الأشخاص هذا الانحياز عندما يجمعون أو يتذكّرون المعلومات بشكل انتقائي، أو عندما يفسّرونها بطريقة متحيّزة. يكون تأثير ذلك أقوى في المسائل المحكومة عاطفيًا والمعتقدات الراسخة بشدّة. يميل الأشخاص أيضًا إلى تفسير الأدلة الغامضة بشكل يدعم موقفهم الراهِن. استُشهد بالانحياز في البحث، والتفسير، والذاكرة لتأويل تضارُب الموقف (عندما يُصبح الخلاف أكثر حِدَّة برغم توافُر الأدلة نفسها لدى الأطراف المتنازعة)، ورسوخ الاعتقاد (عندما يستمر الاعتقاد بعد توضيح أن الدليل الذي يدعمه خاطئ)، تأثير الأسبقيّة غير المنطقيّة (الاعتماد بشكل أكبر على أوّل ما وُجد من سلسلة معلومات) والربط الوهمي (عندما يوجد اعتقاد خاطئ بارتباط حدثين أو موقفين). - ويكيبيديا

أي أنه من المنطقي والطبيعي أن تبني إيمانك على أسس الدين وليس أن تؤول أسس الدين لكي تخدم إيمانك، أليس هذا هو الطبيعي؟

تخيل أنك شخص لم يسمع بالدين، هل ستؤمن بأحد الأديان بناءاً على ما يقوله هذا الدين، أم ستؤمن بأحد الأديان مسبقاً ثم تحاول توفيق ما يقوله الدين مع ما يخدم موقفك وهو رغبتك في الثبات على الدين؟

أعتقد أن المشكلة متأصلة في جميع المؤمنين بلا استثناء، عندما يساور المؤمن شك، فهو لا يبحث عن الحقيقة ولكن يبحث عن ما يزيل شكوكه ويثبت إيمانه، لا يستطيع أحد إنكار ذلك، لم أجد من شك في مسألة دينية وكان مستعداً لترك الدين لو لم يقتنع بما قرأه ولم يجده منطقياً، بل الجميع يمارس الانحياز التأكيدي ويحاول قدر الإمكان إيجاد إجابة مرضية على أسئلته، بغض النظر عن كونها صحيحة، المهم أن تجعلني متمسكاً بموقفي.

(لم أقل أن غير المؤمنين لا يفعلون ذلك، فأيضاً من الممكن للملحد أن ينتقي الآراء التي تجعله ملحداً، ولكن حديثي هنا عن قضية الإيمان تحديداً)

في أحد مواضيعي هنا، كتبت عن إحدى حلقات برنامج Anti-إلحاد لأحمد خيري العمري، وفي وسط حديثي ذكرت التالي بالحرف:

" الجواب عن السؤال في الحلقة الثانية كان مقنعاً جداً بالنسبة لي، وضح العمري علاقة العلم بالدين بما كنت مقتنع به بالفعل، شعرت وكأنه يترجم رؤيتي للموضوع"

وكانت هذه أحد الردود:

طبعاً لم أهتم بالرد مطلقاً ولم أكن أعرف حتى ماهو الانحياز التأكيدي بالرغم من كون هذا ما فعلته بشكل صريح.

مازلت معتقداً بنفس الرأي حتى الآن بغض النظر عن اعتقادي بصحة الدين من عدمه، ولكن هذا مثال فقط لما كنت أقوم به شخصياً.

أنظر أنت أيضاً في موقفك مع إيمانك، ستجد أنك تمارس هذا الفعل حتماً بشكل أو بآخر.

  • المشكلة الثانية:

إذا كان الاختلاف رحمة، والدين مبني على الاجتهادات، فما فائدة الدين من الأساس؟

الجميع يعرف أن الدين هو خارطة طريق الإنسان، وأن الناس يجب أن يحكموا بهذا الدين في الأرض، ولا يجب الخروج عنه، وهو هداية الله للإنسان، إذا التزمه فقد أصاب، وإن حاد عنه فقد أخطأ. ولكن في نفس الوقت فالدين ليس واضحاً، والتفاسير ليست متشابهه، والكل يفسر بناءاً على ما يريد، فكيف يكون تطبيق كل هذه الأمور ممكناً في ظل هذا التخبط؟ إذا كان كل شخص سيختار ويشكل الدين على منطقه الشخصي، فأين هو الدين الذي يجب أن يلتزم به الجميع، يكاد لا يكون هناك حكم ديني واحد لا يختلف عليه الناس، حتى وإن أجمع عليه البعض فدائماً هناك من هم مختلفون ولديهم رأي آخر، والجميع يريد اخيار ما يتفق معه ليس أكثر.

أنا لست ضد الاختلاف، ولكن وجود الاختلاف في الدين مع الوضع في الاعتبار غايات وأهداف الدين تجعل الأمر غير منطقياً، الاختلاف موجود بوجود الدين وعدمه فلم الدين من الأساس؟ تخيل عدم وجود أي دين، سيفعل كل شخص نفس الأمر، سيحدد مبادئه ومعتقداته بناءا على ما يريده ويجده منطقياً. مع وجود الدين لم يختلف الأمر، بل أصبح الدين فقط مجرد إلهام، وأملٌ يريد معتنقيه التمسك به، وقلة من يريدون الخروج عنه.

باب النقاش مفتوح، والسؤالان الرئيسان هما:

  • هل يمارس المؤمنون الانحياز التأكيدي؟ وماذا يجبرهم على ذلك؟

  • ما هي فائدة الدين رغم عدم وضوحه واختلاف معتنقيه؟ أين الدين الذي يجب علي الالتزام به إذا كان كل شيء أستطيع لي عنقه لكي يخدم منطقي؟

دمتم بخير وغير متحيزين.