أثناء عمليّة الاستذكار (أمقتُ استخدام مُصطلح المراجعة العامّة) في مادّة الشريعة الإسلاميّة، وبينما وصل الأستاذ في شرحه إلى درس العقل في القرآن الكريم، تذكّرتُ فحوى حديثنا الغابر، ورسالتِك الثانية، «إنّ للعقلِ حُدودًا»، هذا ما يُخبرنا به نصّ الدرس، لا يجبُ أن يتعدّى المساحات إلى الغيبيّات، أو يُفكّر في ماهيَة تقبيل الحجر الأسود؛ إنّ في هذا بعض الحقيقة، فمهما فكّرنا - لعصور طويلة - لن نلقى أيّ إجابة عن سبب تقبيل الحجر الأسود، وهذا ما يُفسّر قول عمر بن الخطّاب: «إنِّي أعلُم أنَّك حَجَرٌ ما تَنفعُ ولا تَضُرُّ، ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقبِّلُك ما قَبَّلتُكَ»، وما يُبرز أهمّيّةَ فعلِ تغييبِ جزءٍ من العقل: حفظُ الإيمان، ثمّ إنّ هذا الإيمان الجازم والخضوع المتذلّل لأرواحنا يسمح بتقديم النقل على العقل، كما يفعل السلفيّون، ويُخالفهم المعتزلة في ذلك. أقُول في الأخير: أنّ البحث في هذه المسألة - التقبيل من عدمه - مجرّد مضيعة وقتٍ، والإنسان في الأخير - كما تعلمين - يُفضّل دمج شفتيه بشفتين أخريينِ بدلَ ملامسة حجرٍ بارد وسوداويّ (صفةً أم لونا؟).
لا أعتقدُ أنّ الإنسان يُمكن أن يعيشَ بدُون أفكارٍ ميتافيزيقيّة، خاصّة في الفترة الأولى من زيارته المؤّقتة لهذه الحياة الصعبة (والبائسة). نحنُ نستسلمُ لبعض الاعتقادات الغيبيّة - حتّى إذا لم تصل إلى درجةِ الإيمان بشكلٍ تامّ بفكرة الإله - إنّنا نُوهِم أنفسنا بصدقِ بعض الأشياء التي لا نعلمُ عنها شيئًا، فقط لترتاح نفوسنا المضطربة، وهذه صفة غير حميدة. بعمليّةٍ عكسية: تفسيرُ الأفكار الميتافيزقيّة علميًّا ليسَ ضربًا من الجنون، لكنّه في أغلبِ الأحيان (سنعود للنقطة الأولى) ضربًا من ضياعِ الوقت الكثير، سنستسلم مجدّدا، أثناء محاولتنا لتفسير المعجزات إلى فكرة وجود قوة عُظمى قادرة على كلّ شيءٍ، فما هي الحجّة العلميّة التي تُفسّر تحوّل العصا إلى حيّة في قصّة موسى؟
الخيالُ سبيلٌ للمعرفة، لكنّه ليس المعرفة ذاتها، يُمكن تخيّل سيران الصوت في الهواء، يُحفّز هذا على العمل لاكتشاف الأمواج الصوتيّة، لكن هذا لا يعني أنّ الحقيقة (إذا وصلنا إليها كاملة) ستُطابق تخيّلاتنا السابقة. تاريخيّا، نعم، يمكن للعقل أن يُوجِد أفكارًا تفسيريّة غيبيّة، سيرفضها رفضا قاطعا فيما بعدُ، وسيراها سذاجة كُبرى وحماقة ارتكبها، لكنّها واجبة، لأنّ التفسير الخاطئ (الميتافيزيقيّ) يمهّد للتفسير الصحيح (المنطقيّ والعلميّ)، يُؤكّد هذا تحكّم إله البرق بالبرق في الميثولوجيّة الإغريقيّة، ثمّ تسبّب التفريغ الكهربائيّ الحادث في الغلاف الجويّ، في انتشار الخيط البنفسجيّ وسط صفحة السماء.
ملاحظة: هذه الأفكار مقطُوعة من إحدى الرسائل، ولم أنشُرها إلّا لمحاولة إثارة التفكير عند القرّاء.