أجدني غريباً عن نفسي أحياناً. في عقلي بحر من الأفكار، لا يهدأ عن توليد الجديد وصياغة الأمور بتسلسل منطقي يدهش من يسمعني. إن سألتني عن موضوع ما، أجبتك بتفصيل دقيق، أرسم لك خريطة واضحة المعالم، أشرح الأسباب والنتائج، وأحاكي أدق التفاصيل حتى يخيل إليك أنني خبير قضيت عمري في هذا المجال.
لكن حين يأتي الامتحان الحقيقي، حين يُطلب مني أن أنفذ ما قلت، يقف داخلي حاجز خفي. أتردد، أتعثر، وكأن يدي لا تعرف كيف تُترجم ما خطّه عقلي. لحظة التنفيذ تُربكني، وكأنني شخص آخر لا علاقة له بذلك المفكر الواثق الذي كان يتكلم قبل دقائق.
المفارقة أن الآخرين ينظرون إليّ بإعجاب. يأخذون إرشاداتي ويطبقونها بحماس، ويحققون بها نجاحات، بينما أنا أكتفي بالوقوف جانباً أراقبهم، يظنونني خبيراً متقناً، وأنا أعلم أنني مجرد عقل نظري يكتفي بالتوجيه. فكيف أكون مصدراً لإلهام غيري، وأنا في داخلي أعجز عن تحويل أفكاري إلى واقع؟
أتساءل كثيراً: ما سر هذا العجز؟ أهو خوف دفين من الفشل يجعلني ألوذ بالتنظير الآمن بدلاً من خوض غمار التجربة؟ أم أنني بطبيعتي أميل إلى رسم الخرائط أكثر من السير في الطرق؟ ربما كلاهما. ربما اعتدت أن أكون في منطقة مريحة، حيث يكفيني أن أبدو عارفاً، دون أن أختبر صعوبة التطبيق ومفاجآته.
لكن هذا لا يلغي حقيقة أنني أشتاق أن أرى فكرتي وقد ارتدت ثوب الواقع من صُنع يدي، لا من جهد غيري. أشتاق أن أتحرر من سجن التنظير، أن أتعلم كيف أخطو، ولو بتعثر، بدلاً من أن أبقى متفرجاً بارعاً في الشرح عاجزاً عن الفعل.
أدرك أن العقل المبدع وحده لا يكفي، وأن اليد وحدها قد تبني بلا وعي. أما أنا، فما أريده هو الوصل بينهما؛ أن أجعل فكري جناحاً، وفعلي جناحاً آخر، لأطير بهما معاً نحو إنجاز حقيقي يحمل اسمي.
التعليقات