تشير الإحصاءات إلى أن 50% من خريجي الجامعات حول العالم لا يعملون في تخصصاتهم التي درسوها مما جعلني أفكّر: إذا كان الكثير من الطلاب لا يجدون فرص عمل تتناسب مع مجالات دراستهم الجامعية فلماذا نرى ازدياد ملحوظ في الطلب على التعليم الجامعي وتوسع الجامعات بشكل مستمر؟
٥٠% من خريجي العالم لا يعملون باختصاصهم، إذاً لماذا يتضاعف الطلب على الجامعات؟!
الجامعات تقدم التعليم النظري أكثر من التعليم العملي, وهناك فرق بين الدراسات الجامعية النظرية والدراسات الجامعية العملية التطبيقية التي تهدف عادة إلى تأهيل الخريجين لشغل وظائف محددة المعالم مسبقا, وغالبا ما تكون مقاعدها محدودة حسب احتياجات الدولة.
أما بالنسبة للتعليم النظري الذي تقدمه الجامعات، فلا يعني بالضرورة وجود وظائف مخصصة لكل تخصص أكاديمي تنتظر جميع الخريجين. ولكن الطلاب يكتسبون أدوات علمية ومعرفية تفيدهم في حياتهم المهنية. هذه الأدوات تشمل مهارات متعددة, مثل التفكير النقدي, وتحليل المشكلات وإيجاد حلول مبتكرة لها, وكذلك القدرة على البحث والاستقصاء في مجالات متنوعة.
لو أجرينا مقارنة عملية لحل مشكلة ما بين مجموعة مكونة من مائة خريج جامعي ومجموعة أخرى من مائة فرد لم يتلقوا تعليما جامعيا, فمن المرجح أن يتفوق الجامعيون بسهولة. لامتلاكهم مهارات وأدوات معرفية اكتسبوها خلال دراستهم الجامعية.
ولا يعني هذا أن كل خريج جامعي هو أفضل من كل شخص لم يدرس بالجامعة, فهناك عصاميون أفضل بمراحل من خريجي الجامعات ولكن هؤلاء العصاميون كانوا سيتفوقون أكثر لو تم منحهم فرصة الدراسة الجامعية.
أنا أوافقك الرأي تماماً بمسألة التفكير النقدي وحتى أضيف على هذه الزاوية مسألة أهمية كيف تتعلم وكيف تحصّل المعرفة وتحل المشكلات ولكن لماذا لا يكتفي هؤلاء الطلاب ببعض الكورسات الأكاديمية بدلاً عن ذلك في بعض المنصات المرموقة وانتهينا، ما الداعي لأن يدخلوا في مساقات اكاديمية معتمدة طويلة لتحصيل هذه القيمة التي تذكرها!
لأنه ليس هناك قيمة واحدة أو اثنتان بل قيم عدة متعددة لا متناهية ولا مقارنة إطلاقا بين كورسات المنصات وكورسات الحضور الشخصي, حيث يكتسب الطالب حتى مهارات التواصل الشخصي والتفاعل وتنمية الشخصية والإلقاء والعديد جدا من المكتسبات, بل حتى التخصص بحد ذاته سيفيد صاحبه في حياته بشكل من الأشكال, سواء الشخصية أو المهنية.
انتبه لتلك المعضلة بعض الأفراد النابهين، فاختصروا الطريق واتخذوا سبيل التعلم الذاتي مع المثابرة والانضباط، لكن حتى الآن لم يتحرر كامل المجتمع من ثقافة أن الشهادة الجامعية ضرورية، لذلك تجد أغلب الشركات تطلب من ضمن متطلبات الوظيفة أن يكون المتقدم حاصل على "مؤهل عالي" حتى لو لم يكن هذا "المؤهل" مطابقاً للوظيفة المعلن عنها.
فكّرت مرة واقترحت على واحد من المؤثرين الذين عملت معهم بأن نقوم بحملة للتوعية من مخاطر الجامعة، بكيف أحياناً تسرق أهم سنوات العمر وقد تخرب العقل مادياً بشكل حرفي وقد لا تعطينا المعرفة العملية اللازمة التي نحتاجها، كان مقتنعاً مئة بالمئة بالأمر ولكنه خاف أن ينشر عن هكذا أمور لشدة معارصة المجتمع لهذه الأراء واعتبارها فانتازيا مغلوطة!
أنا شخصيًا أعتقد أن الجامعات تمثل أكثر من مجرد بوابة للحصول على وظيفة لدى الكثيرين. أحيانًا يكون التعليم الجامعي جزءًا من حلم أو طموح شخصي أو طموح للأهل مثلا، أو حتى وسيلة لتحقيق مكانة اجتماعية. في بعض الأحيان، الناس يختارون تخصصاتهم بناءً على ما يعتقدون أنه سيكون له تأثير إيجابي على حياتهم المستقبلية، حتى لو كانت الحقيقة أن التخصص قد لا يتوافق مع الفرص الموجودة في سوق العمل.
يبدو أننا أحياناً نقوم بخيارات مغلوطة ونتوقع نتائج جيدة في هذا المناخ الذي خلقناه، حيث ألاحظ مثلاً كثير من الشبّان يدرسون لغة انكليزية أو فلسفة أو تاريخ ويتوقعون أن العالم سينتفض ليوظفهم بعد ذلك أو يعطيهم من القدر ما يتفوق كثيراً على أبعد خيالاتنا عن هذه المنجزات، سواء على المستوى النفسي أو المادي.
لأن التعليم الجامعي لا تقتصر قيمته على العمل فقط الآن بل تحول إلى معيار لتقييم الأشخاص وانتفاعهم بالخدمات أيضاً، في بلدي مثلاً التجنيد عام واحد لو أنت حاصل على شهادة جامعية بينما التجنيد ثلاثة أعوام لو أنت لم تحصل عليها.
وهناك وظائف بعيدة عن الاختصاص تطلب مؤهلات عليا، كان آخر ما رأيت منها مدير مخزن لمحلات ملابس ومشترط أن يكون حاصل على تعليم جامعي.
عندما تذهب للزواج قد لا تحصل على من تريد لمجرد أنك لم تكمل تعليمك بينما أكملت هي، وحاليا في بعض المدارس الخاصة يرفضون ضم الإبن لو كان الأب وآلام غير حاصلين على تعليم جامعي.
التعليقات