إني أهدي هذه القصة إلى بطلتها ابنة جارنا “راما”

و إلى جارنا الدكتور الذي عالجها “أبو أيمن”

و إلى كل من شهد ذلك الحادث المروع

لم تكن تلك الليلة أقصى من سابقتها برودة، هذا هو الشتاء في سوريا كما المعتاد، الكل يتحلق حول المدفئة، ليست الكهربائية بالطبع لأن الكهرباء مقطوعة في أكثر الأحيان، أنا و إخوتي الثلاثة و أبي أيضاً كنا في غرفة الجلوس الدافئة و الباب مغلق، كنت أشعر بالدفئ فعلاً وأنا أحل واجباتي اليومية المعتادة و أرتدي من الثياب ما طال، و قد كنت أشكر الله على أن لدينا ثياباً نرتديها و محروقات نتدفأ بها. فإذا بناء نحس بباب الدار يفتح ومن ثم باب الغرفة لتدخل منه أمي التي كانت تزور عند جارتها و تحمل بيدها مصباحاً، إنه الروتين عندنا، بإمكانك نسيان مفاتيحك و أموالك لكن لا تنسى هويتك و مصباحك قبل الخروج من البيت فهؤلاء الاثنين لا يقدران بثمن، ففقدان الأول قد يجعلك تمضي الوقت في فروع المخابرات بينما يكتشفوا أنه لا علاقة لك بشيء و الثاني قد يجعلك تمضي الوقت و أنت تتخبط بالجدران.

لم تكن أمي تستقر على الكرسي حتى سمعنا صوت طلقة و كسر زجاج، هذا فعلاً أقرب بكثير مما اعتدنا سماعه في العادة و الكهرباء لم تأت فلا أظن أن أحداً يحتفل بمجيئها كما جرت العادة، و ليس اليوم أحد الأعياد القومية. خرج أبي ليشاهد ما حصل و هو يمشي ببطئ و تأني، و البطئ و التأني و الحذر أكثر الصفات الشائعة في أيام كهذه، فالشجاعة قد يكون ثمنها حياتك.

فتح أبي الباب و وجدنا ما بدا جثة لابنة جارتنا راما، و الدم ينزف من جبهتها، اتبعنا تعليمات السلامة الحربية و في هذه الحالة فهو غالباً قناص أطلق عليها النار من النافذة بينما كانت تنزل إلى بيتها ، أخذنا القرفصاء أنا و أبي و بدأنا نشدها إلينا فلم نكن نعرف بعد إذا كانت حية أم لا

أدخلناها إلى الدار و وضعناها على السجادة، بدأت تتحرك، يا إلهي أي قوة في تلك البنت التي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر عاماً، هي إن لم تمت بالطلقة فكان عليها على الأقل أن يغمى عليها من الصدمة، كنت واقفاً إلى جانبها و تذكرت أنني و أبي من أحضرها من الخارج إلى هنا، لكن لحظة، أي جرأة دفعت بي إلى الخارج لأنقذها، ربما نفسها الصدمة تلك التي لم تؤثر في راما، جاء جيراننا بعد برهة قصيرة جداً لاستكشاف ما حصل، و من بينهم أبوها، ليرى ابنته ممدة على الأرض و أبي يجلس إلى جانبها ويمسح الدم المتدفق على جبهتها، ليركض إلى الداخل و كأنه نسي حالة القرفصاء التي جاء بها إلينا، إنها الأبوة، لم يأبه بالقناص الذي ربما لا زال رابضاً في مكانه تماماً كالأسد حتى يختار ضحيته التالية، طمأنه أبي بأن الطلقة حادت عن رأسها و أنه مجرد جرح خارجي، لم يصدق جارنا أبي لأنه وإلى جوار أبي مباشرة كانت ترقد كومة من قطع القطن الأحمر و كذلك السجادة التي تحولت من اللون الأزرق إلى الأحمر، أمسك بيدها و ضغط عليها و كأنه يطلب منها أن تصبر و لكن أليس هو من يحتاج فعلاً إلى الصبر، استجمعت قواها و حاولت المقاومة، مقاومة من لاتدري لكنها تعرف بأنه يسمى الموت، أغمضت عينيها فرأته قادماً نحوها دون ملامح أو إن صح التعبير بملامح لا يمكن لبشر باستخدام الكلمات أن يصفها، قالت له هل أنت من يلقبوك بالموت، فلم يجب، فأردفت قائلاً: هل لك أن تمهلني بما يكفيني لرؤية أمي و تقبل جبينها، فإذا بها تفتح عينيها و تطلب الماء و لم أرَ إلا كاسة الماء و كأنها نزلت من السماء أمامها و لم أعرف من أحضرها، و تماماً كما يحدث في المسلسلات عندما يطلب المصاب الماء ظننت أنها ستنازع لذا تقهقرت عنها و أنا أهز بيدي إليها أن لا ترحلي، و عندما ارتسمت على وجهها الأصفر ابتسامة خلتها فقدت عقلها من إثر الإصابة

في هذه الأثناء كان الكل يواسي جارنا و يحثه على الصبر، ما أسهل قول كلمة اصبر عندما لا تكون المصيبة مصيبتنا

جاء جارنا الدكتور و معه أدواته بعد أن أخبره الجيران بالحادث، و بدأ يعمل و يخيط الجرح، و لأول مرة كنت أعلم أن الإنسان يخاط كما الجوارب، لم تكن تتألم فقد كان أملها برؤية أمها و لو لآخر مرة يفوق أي ألم، بينما كان أبوها يتلوى كلما دخلت الإبرة في جلدها و يتوق إلى الانتهاء من هذه الحادثة بل و قد كان يتمنى لو أنه لم يخلق قط، دعوت الله من أجلها، دعوت الله أن لا تموت بين يدي والدها، فما أقساه من شعور أن يموت الإنسان و هو في ريعان الشباب بين يدي أبيه و أمه أو حتى بعيداً عنهما، فطنت إلى شيء بعد أن انتهيت من الدعاء، أين أمها؟ و مالبث أن جاء أحد أبناء جيراننا ليقول للدكتور بصوت عالٍ و هو يعمل على رأسها، أمها أغمي عليها يا دكتور نحتاجك في المنزل حالاً أرجوك، نظرت إلى ذلك الأب المسكين، لكنه لم يبرح مكانه و لم يحرك ساكناً، بيدو أنه لم يسمع و لم يشعر بقدوم أحد حتى، لكن الأرض ضاقت بها و تمنت لو أنها تستطيع ترك الجرح مفتوح و الخيط يتدلى منه لتذهب و تضم أمها إلى صدرها و تبكي بكل سخاء و تقول لها أمي استفيقي لقد قاومت الموت من أجلك، أريد أن أقبلك بلا انتهاء، لكنها لم تستطع، عجّل الدكتور في عمله ليلحق بالأخرى، و لم يخطأ أبداً في خياطته الجرح، ربما كان ذلك لأنه يعالج الكثير من المصابين مثل حالتها في هذه الأيام.

ذهب الدكتور إلى البيت المجاور، و قالت فجأة أنها تريد أن تذهب لتطمئن على والدتها، حاول أبوها أن يمنعها من القيام لكنها لم تستجب له، حيث أن أكبر ما تتمناه الآن رؤية وجه والدتها و تضمها ضمة شديدة لا تنفك أبداً ،و انتصبت راما واقفةً على قدميها و كأن ليس بها خطباً، يبدو أن هذه الفتاة ستدهشني مرات و مرات بقوتها، انتبه أبي إلى وجودي بعد فروغه من الاعتناء براما و الاطمئنان على حالتها و قال: منذ متى وأنتما هنا؟ ألا يجدر بكما أن تكونا في الداخل و تكتبا واجباتكما؟ من يقصد بأنتما؟ فإذا بي أسمع صوت أختي ميلا إلى جانبي، كيف لم أشعر بوجودها؟ يبدو و كأنني كنت قلقاً فعلاً حيال ابنة جارنا، لم أكن لأرضى بأن تشاهد أختي هذا الشيء أبداً لو علمت أنها تقف إلى جانبي، مسحت دموعي كي لا تراها أختي، و تعجبت للمرة المليون في ذلك اليوم كيف لم تكن أختي تبكي؟ قالت لي معاتبتاً: أنت رجل لا يجدر بك البكاء! سألتها بكل خجل لماذا لم تبك أنت؟ وبّختني و قالت ظننتك فطناً أكثر من هذا، لا يجدر بنا أن نبكي أمامها كي لا تحبط معنوياتها ألم ترها بنفسك تبتسم، أم أنك ظننت أن دعاءك هو الذي أنقذها؟!

عدنا إلى الغرفة للدراسة، و لم يكن عقلي داخل رأسي حينها من إثر الصدمة، ألست للتو شاهداً على ما كان أشبه إن لم يكن أصعب من الموت نفسه، و حالما دخلنا الغرفة راحت أختي تجهش بالبكاء، فعلاً إنه لأمر مضحك، في أي بلد نحن أو في أي غابة، مالهذه المشاعر؟ كم جعلتينا أيتها الحرب نقاسي؟! أنت جعلتينا نقبر الأحزان في قلوبنا حية فنقاسي من آلامها العمر كله، تباً لك ألف مرة

عادت أمي من عند جارتنا التي صحت من غيبوبتها، بعد أن عرفت بأن ابنتها لم يصبها الخطر، ركضت إلى أمي و ضممتها، تعجبت كل العجب، لكني قلت لها هل تعلمي لو أنك تأخرت قليلاً من الخروج من عند جارتنا التي كنت تزورين عندها لكان القناص اختارك أنت و ليس راما. ابتسمت و هي تعلم أنه وقت غير مناسب لذلك لكنها فعلت، يالأنانيتي، منذ قليل كنت مشفقاً على راما و الآن تراني فرحاً لأنها كانت هناك أمام القناص بدلاً عن أمي.

خرجنا في اليوم التالي أنا و أختي لكي نغسل السجادة من الدماء، شاهدت كيف كان الدم يذوب مشكلاً خيوطاً رفيعة حمراء في الماء، أي غبي أنا أأستمتع بمشهد الدم، أتراني نسيت ما حصل بالأمس؟ يبدو أنني ما نسيت إلى الآن لكننا تعودنا أن نتناسى، لأن هذه الأحزان أصعب على الذاكرة من أن تنساها، لو انتظرنا الذاكرة أن تنسى هذه الآلام ربما نموت و لا تنسى. هؤلاء الذين شهدوا تلك الحرب و مازالوا كذلك، هم فعلاً أناس غير عاديون اختارهم الله لهذه المهمة الشاقة، و في نفس الوقت أعطاهم قدرات خارقة لأنه ليس بمقدور أي مخلوق كان أن يستمر في هذه الحياة في تلك الظروف إلا و أن يجن.

إلى الآن لا ندري إن كان ذلك القناص فعلاً يريد فقط أن يتسلى بإصابة أعلى رأسها دون قتلها، أم أن الله بقدره أراد أن يخيب رميه؟! و في الحالين ندري أن ذلك ليس من الإنسانية في شيء. و عندما أفكر أنه قبل الحرب ألم يكن ذلك القناص نفسه هو مَن مِن المفترض أن يحمينا؟ ألم يكن قبل ذلك يعيش بيننا و كأنه واحد من بني البشر! و أتعب من التفكير في ذلك حقاً. الحرب كشفت لنا نوايا من كنا نظنهم إخواننا، من كنا نظنهم أبناء وطننا، كيف كانوا يمثلون طول هذا الوقت دور الأخوة دون أن يخطئوا بذلك مرة، و حينما حانت لهم الفرصة ظهروا على حقيقتهم، و لكن يبقى السؤال من أين جاؤوا بهذا الحقد، لو كانوا دفنوه داخلهم فأي قلب اتسع لذلك.

راما و لحسن الحظ لم تنل الشرف بأن تسق تراب الوطن بدمائها، كما كانوا يعلموننا في الابتدائية، و لا أدري بماذا يستفيد الوطن من دمائنا، أوليس بقائنا أحياء أفيد للوطن، على كل حال فقد نالت راما الشرف بأن سقت سجادتنا بدمائها…

أظن أن آثار الطلقة لا زالت موجودة على الزجاج، و أظن أن هذه الآثار جاء من يؤنس وحدتها فلم تبق وحيدة بعد أن هُجر البناء، وحتى إن سقط الزجاج فهناك من سيحمل هذه الذكرى إلى الأبد دون أن ينسى

و أفكر الآن ما شعور من كان في مثل موقفها، و لماذا كانت تبتسم؟ و أستنتج أنه من كان في مثل موقفها تخالجه جميع المشاعر حتى لَأَنْهُ لا يشعر بأي منها، أما لماذا كانت تبتسم، فربما لأنها بقيت على قيد الحياة و استطاعت رؤية وجه والديها مرة أخرى، أو ربما لأنه وبكل بساطة لا يجدر بها فعل ذلك حينها

حدثت في حمص، و كتبت في مكان بعيد عن ذلك كل البعد، حيث هربت و نجوت لأنني و بكل فخر لا أريد أن أفيد الوطن بدمائي أريده أن يستفيد مني بشيء آخر

ملاحظة: بكوني شاهداً فقط على ما حصل، و لم أكن في موقف راما نفسه فربما تجد القصة خالية من أي مشاعر، و ربما يعزيني شيء واحد بذلك هو أني كنت صغيراً بما يكفي حتى لا أتمكن من تجميع تلك المشاعر، و أما إن وجدتها جيدة فذلك فقط لأنها فعلاً قصة حقيقة لإنسان احتضر و لم يمت. و لو كانت راما هي من يكتب هذه القصة لربما استطاعت شرح ما كان يعتلج في صدرها من مشاعر أكثر مما فعلت أنا.

حازم عمر زين العابدين