هل تعلم ما معنى وصف النعيم المقيم الذي وصف الله به الجنة في قوله تعالى: { یُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣲ وَجَنَّـٰتࣲ لَّهُمۡ فِیهَا نَعِیمࣱ مُّقِیمٌ }[سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٢١] 

إن قلت لي الراحة أو الأمان فكل هذه المعاني قد حصلها بعض خلق الله في الدنيا وعاشوها فترات من حياتهم، لكن هناك حالة واحدة لم يختبرها أحد في الدنيا رغم أننا نظل نبحث عنها في كل وقت وكل حين، وهي حالة الاستقرار أي ثبات الحال على ما هو عليه، وهو في الدنيا محال وفي الجنة هو حال أهلها على الدوام، فلا شقاء فيها ولا تنغيص ولا تحول إلا إلى حال أفضل مما كانوا فيه، استقرار في نعيم الله، وهي من أعظم نعم الله على أهل الجنة، بعد رؤية وجهه الكريم، وبعد مرافقة الأنبياء والشهداء والصالحين، تخيل مكاناً كل ما فيه سلام، كل ما فيه وئام، كل ما فيه حب واهتمام ووفاء وإخاء ومودة، هذه هي الجنة.

لذلك فلا تبحث عنها في دار الشقاء والفناء، دار المحال والمستحيل، فإذا أيقنت بأنه لا بقاء لحالك الذي أنت عليه الأن، وإنك مفارق لكل ما أنت معه ولكل ما هو معك، حينها ستجد نفسك بين حالين، إما حال الضيق والألم على فراق لم يحصل بعد، لكنك تعلم بأنه حاصل لا محالة، وإما حال الرضا بقدر الله فيك، والإيمان بأن حكمته البالغة جعلت في كل أقداره عليك خيراً مستتراً لك، بالتالي تحاول جعل تلك الفترة التي تعيشها راضياً سعيدة حتى إذا تحولت عنها وتغير حالك ذكرتها بشكل يسعدك ويرضيك.

لكنك هنا لا تختار كيفما تشاء، فإن كنت ترى بأن الرضا هو الخيار الأفضل فقد لا تكون أنت مستعداً له، فإن مرض أحد أعزائك المقربين مرضاً ظننت معه فراقه، فإن قلبك المتعلق به سيجبرك على الخوف والقلق من فراقه، وسيجعلك تدعو في كل لحظة أن يشفيه الله بأي شكل، وما إن يحدث ما تخاف منه حتى تنهار نفسياً ويسيطر عليك الإكتئاب والحزن، هذا لأنك بنيت قرارك هذا منذ اللحظة التي نسيت فيها حقيقة فراقك لهذا الشحص فعودت قلبك على وجوده منذ البداية، واعتبرت وجوده حقيقة ثابتة لا تتغير، ونسبت بأن هذا محال في الدنيا، ولكنه متاح في الجنة، لقد علقت قلبك بهذا الشخص وصرت تستمد منه ثقتك وقوتك فخارت قواك كلها لما فقدت ذلك المدد، وأنا لا ألومك، بل إني متعاطف معك، ففي عالمنا الموحش الصعب، صار من شبه المستحيل أن نجد شخص يصدر لنا الإحساس بالقوة والأمان، فنتناسى في وجوده لحظة فراقه، ونعود إليه في كل مرة يخذلنا العالم أو تخذلنا أنفسنا، فإذا فقدناه فقدنا معه ذلك الوقود الذي كان يحرق كل الكوابيس في دواخلنا، ويحولها إلى طاقة تحركنا للأمام.

لكني وأنت لا ندرك حقيقة مهمة، نحن نستمد قوتنا من معين ناضب، له قدرة محدودة على دفعنا للقمة، ونترك من ورائنا خزائن رحمة الله لا نقربها ولا نحاول أن ندعوه بها، وهذا لأن معاييرنا في التفكير والاختيار بها خلل بسيط، لقد بنينا أنفسنا على المشاهدة لا على الإيمان، أي أننا صرنا لا نصدق إلا ما نراه، فإن لم نرى معونة الله لنا لا نعترف بها، وإن رأينا حنانا من بعض الناس علينا صدقناه وتعلقنا به، وهذا ما جعلنا نغرق في الخيبات والويلات بسبب استمداد القوة من الفانين والتخلي عن معونة الحي الذي لا يموت، الله الحليم يعلم بأن قلوبنا صغيرة وضعيفة لا تتقن الصبر وتعشق التقلب والتعجل، فوضع للناس صراطاً مستقيماً يفصل بينهم وبين الجنة، هو عبارة عن تحدي صغير لكل نفس، أن تؤمن بالله دون أن تراه، أن تؤمن بالغيب الذي سمعت عنه ولا قدرة لها على إثباته أو نقيه، ومواجهة عالم كامل يعتقد بأنك مجنون تصدق ما يحلو لك، فإذا كنت لا تؤمن إلا بما ترى، كيف ستؤمن بمن ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير؟!

هكذا بنى المسلمون الأوائل نفوساً قوية، وقلوبا تأبى إلا لقاء ربها على طاعة وسلامة، لأنهم تخلو عن تصديق ما تراه عيونهم وعودوا قلوبهم على التخلي، وعاشوا حياتهم على أمل لقاء ربهم وتركوا من ورائهم كل ما هو فانٍ وزائل، هذا لا يعني أنهم لم يحزنوا على فراق أحبتهم، ولا يعني أنهم لم يرتكبوا الأخطاء، لكنهم أيقنوا بأن كل ذلك ما هو إلا جزء من التجربة الدنيوية التي يعايشونها، فتعاملوا معه بما علمهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم  لا بما أملته عليهم نفوسهم، لقد كان مبدأهم أن بقاء الحال من المحال، لذلك عاشوا حياتهم مؤمنين بأن محل الاستقرار الوحيد هو جوار رب العالمين الباقي الذي لا فناء له، والحي الذي لا يموت، سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.

لذلك أقول بأننا نبني قراراتنا الكبيرة في كل مرة نختار فيها إختياراً صغيراً، وكل قرار جديد يمثل خطوة على الصراط أو إنزلاقة من فوقه، ففي كل مرة نسمع فيها الأذان نكون بين حالين، إما أن نردد من وراء المؤذن ونحن نتوضأ للصلاة، وإما أن نتجاهل الدناء ونصمت إلى حين ينتهى المؤذن، ونكمل ما كنا فيه، متنازلين به عن جوار الله حين تصفعنا الدنيا بنوازلها، وقياساً على كل عادة في كل مجال، يمكن أن نقول بشكل بسيط بأن قراراتنا نتيجة لعاداتنا.