لا أحد يفهم دوافع من ضاقت بهم الحياة حتى وجدوا في مجال العمل الحر ملاذاً لأحلامهم، ولا أحد يدرك مقدار الطاقة المستنزفة يومياً من أجل كسب بضعة دولارات بالكاد تكفي لرشوة حاضر نرجوه أن يمنحنا حفنة أمل صغيرة تعدنا بمستقبل أفضل؛ إلا من تمرغ قلبه في وحل التحديات الجسيمة، وسُكب عرقه باللترات على أرصفة الطرقات جرياً خلف لقمة العيش.

كثير ممن يبدؤون بتقديم الخدمات عبر الإنترنت، ينشدون بارقة أمل تنتشلهم من أوضاع اقتصادية صعبة في ظل تحديات سوق العمل الواقعي، ليصطدموا بحائط جديد تمثله المنافسة الشرسة ضمن سوق العمل الافتراضي. ومع ذلك، يحاربون، ويكافحون، وينهضون من بعد كل سقوط ليتابعوا الطريق المفروش بالأشواك أملاً بغد أجمل.

مثل هذه الظروف تدفع الكثيرين إلى محاولة إثبات جدارتهم عن طريق المبالغة بعرض خبراتهم ومهاراتهم، إلى حد يجعل البعض يعتقدون أنهم بلغوا أعلى درجات الإتقان (كمن يكذب الكذبة ثم يصدقها)، بينما يعلم آخرون أنهم يفرطون بوصف قدراتهم راجين تعزيز فرصهم بكسب العملاء، في حين أن فئة ثالثة لا يشكّون للحظة واحدة ببراعتهم المتوهَّمة.

لست بصدد إطلاق حكم على أحد، وإنما أصف حالات شهدتها خلال أعوام طويلة، وأود لفت انتباه الجميع إلى أهمية تقييم مدى جودة ما نقدمه من طرف خبراء ومبدعين ضمن المجال أو المجالات نفسها، لا من طرفنا نحن فقط. إذ يمكنك أن تتوهم أو توهم نفسك بأنك الأمهر ضمن مجالك، لكن تقييمك قد لا يصيب كلياً أو جزئياً.

خلال مسيرة ممتدة، جمعتني الحياة بعشرات المستقلين ممن يظنون أنهم بارعون ضمن مجال الكتابة أو الترجمة مثلاً، إلى درجة أن كثيراً منهم صُعقوا حين واجهتهم بصراحة ملطّفة وانتقاد بنّاء يشير إلى عدم إتقانهم لأبسط أساسيات المجالين.

شهدت العشرات ممن يعتقدون أنهم كتّاب ومترجمون ماهرون، في حين لا يستطيع الواحد فيهم كتابة أو ترجمة فقرة صغيرة دون ارتكاب العديد من الأخطاء اللغوية الفادحة. وبينما يخجل كثيرون من عرض أعمالهم على غيرهم حتى لا يُنتقدوا، تراني أشتري كل فترة خدمة جديدة من كاتب أو مترجم أو مدقق لغوي من مختلف المنصات لأتعلم أي شيء جديد مفيد.

أستغرب كيف أن هناك عشرات الكتّاب والمترجمين ممن يعتبرون التعلم من غيرهم تقليلاً من شأنهم ومستوى مهاراتهم، ولا يلجؤون إلى أساتذة اللغة العربية المخضرمين بهدف الوصول إلى مستوى جديد من الإبداع والإتقان! نفس الشيء ينطبق على كثير من المصممين وغيرهم من المستقلين (لست أعمم طبعاً، فهناك من يسعون إلى التعلم من غيرهم).

ربما أتحدث بموضوع آخر حول المبالغ الكبيرة التي استثمرتها خلال مسيرتي. البارحة صُعقت حين جلست لأخذ لمحة سريعة حول المبالغ المدفوعة لشراء الخدمات من خمسات لوحدها، بقصد تطوير المهارات، أو شراء ملفات أقدمها هدايا لعملائي، أو خلاف ذلك مما يحقق منافع مهنية. لا بد أنني برتبة عميل مميز على الأقل (مشتري مميز: اشترى بين 205$ و 995$).

إن سبب إخفاق عشرات المستقلين هو تقديرهم الزائد أو المتوهم لمهاراتهم الفعلية، لأنهم استندوا إلى رأي شخصي، عوضاً عن الاستعانة بآراء المتمرسين ليحصلوا على تقييمات دقيقة حول جودة أعمالهم، ويستفيدوا من النصائح الثمينة لأهل الخبرة.

لا تقيم جودة أعمالك بنفسك فقط، بل دع الخبراء يقيمون أعمالك أيضاً حتى تتكون لديك صورة أوضح. ولا تخجل من الانتقاد البناء، بل تقبل ملاحظات المتمرسين، واستفد من نصائحهم لتنتقل إلى محطة النجاح التالية.

أعلم أن الظروف الصعبة يمكن أن تدفع المرء إلى توهم بعض الأشياء، أو الإفراط بتقدير المهارات، أو الخوف من الانتقاد الذاتي أو الخارجي خشية فقدان فرص النجاح المنشودة؛ لكن صدقني أن الطريق إلى القمة يتطلب الوقوف أمام المرآة.

حين تنتقد نفسك بشفافية، وتتقبل نصائح الآخرين بدلاً من الإصرار على ما تعتقده حول مستوى مهاراتك، وتصغي السمع باهتمام لإرشادات المبدعين ضمن مجالك، وتدرك أنك برحلة تطوير مستمرة ما دمت حياً؛ ترتقي إلى قمة جديدة كل مرة.

فكرة جانبية ذات صلة:

أناشد أساتذة اللغة العربية، بإضافة خدمات تُعنى بتدريب المستقلين بأسلوب غير تقليدي، وبأسعار تشجع ذوي الدخل المحدود على الاستمرار بطلب المزيد من الدروس. كما أدعو الكتّاب والمترجمين والمصممين (جميع المستقلين حقيقة) إلى إضافة خدمات تعليمية تفيد زملاءهم المستقلين، والعملاء الراغبين بتعلم مهارات جديدة.

وأخيراً، أود أن ألفت الانتباه إلى أن الخدمات التعليمية ضمن المنصة نادرة، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام كل من يرغب بتعزيز فرص نجاحه، عبر تقديم دروس مفيدة (بأسعار مشجعة) يمكن أن يطلبها العملاء والزملاء (ربما أكون عميلك القادم).