[كان يوما عاديا ، وواحد من الايام التي قررت فيها زيارة الوجه الآخر لمدينة الجزائر .. الوجه العتيق ، زيارة الأحياء الشعبية هو من هواياتي المفضلة لانه ببساطة يسمح لك بالتعرف على روح المدينة الحقيقي من دون بهرجة زائدة ..

بدأت رحلتي من حي القصبة .. قلب الجزائر .. و المبني على شكل متاهة منذ العهد العثماني .. في الحقيقة يستحيل على من لا يعرفها الخروج منها لكثرة أزقتها و ضيق طرقاتها .. متاهة حقيقة ! ]

أثناء خروجي من الحي و أنا أشعر أنني ركبت آلة سفر عبر الزمن و عدت سنين للوراء .. رحلة عشتها بأدق تفاصيلها ابتداء من الإستماع إلى أغنية " يا الرايح وين مسافر " من التراث الشعبي الجزائري .. و ليس انتهاء برائحة المأكولات الشعبية التي كانت تملأ المكان ..

ما جعلني أخرج من الحالة التي كنت أعيشها هو رأيتي لفتاة يظهر جليا أنها من أعماق إفريقيا .. كانت ترتدي زيا تقليديا إفريقيا و تغني بأعلى صوتها - حرفيا - أغنية بلغة غريبة غير مألوفة ! .. نعم تماما كاللقطات التي نشاهدها في وثائقي ما ..

ما لفتني فيها هو تلك الملامح على وجهها .. فقد كانت تبدو أنها عانت كثيرا في حياتها .. مع ذلك كانت تغني سعيدة و باعلى صوتها وسط شارع مزدحم !

تبعتها قليلا فقد سلكنا نفس الطريق .. جلست على مقعد عمومي .. فجلست بجانبها و ابتسمت ..

لا أتذكر حتى كيف بدأت الحوار معها .. ما إن خرجت من دوامة أفكاري حتى وجدت نفسي في منتصف حوار شيق معها .. كانت تحدثني باللغة الفرنسية و بلهجة إفريقية صعبة قليلا .. لكنني كنت أفهمها جيدا .. كان اسمها " فاندانا " من الكونغو و كانت من الطلاب المبتعثين لدراسة الصيدلة في الجزائر .. قصتها كانت غريبة و جديرة بالسرد .. أخبرتني :

( لقد كبرت في أدغال الكونغو .. نحن في مكان لا أحد يعلم بوجوده في هذا العالم .. كم نحن مساكين !

كبرت في قبيلة تعد من تعليم المرأة عار ! و لأنني أكملت دراستي و خرجت من موطني فأنا الآن منبوذة و أكبر عار بالنسبة لهم .. في قبيلتي المرأة ليست للعلم و المعرفة هي فقط للزواج و تربية الأبناء .. لكنني رفضت الخضوع لهذه التقاليد .. أردت حياة أخرى غير الحياة البائسة التي كنت سأحياها هناك .. ألا يحق للفرد إختيار الحياة التي سيعيشها ؟ لا يهمني إن كنت سأعيش منبوذة طول عمري و لا يهمني إن نظر العالم إلي نظرة إحتقار .. كل ما أريده هو تحقيق أحلامي .. و ليذهب العالم و المجتمع بتقاليده للجحيم .. ! )

كانت هذه أول مرة أسمع قصة بهذا الكم الهائل من الشقاء فقد أخبرتي بالعديد من التفاصيل التي لا يسعني ذكرها لشدة بشاعتها ..و لم تخبرني بتفاصيل أخرى التي يبدو أنها كانت شديدة الصعوبة عليها لكن ما أدركته هو أن هذه الفتاة كانت " محاربة " بكل ما للكلمة من معنى .. تحدت الجميع .. من والدها و عائلتها إلى مجتمعها و قبيلتها فقط من أجل حلم و فكرة آمنت بها .. لم تتخلى عنها يوما .. أرادت تعليما و ثقافة و حياة .. و سعت إلى تحقيق أحلامها بخطى ثابتة

ما جعلني أفكر بالعديد من الأحلام التي تخليت عنها لأسباب تافهة !! قصتها كانت قصة كفاح

فاندانا لليوم صديقتي .. وهي من المتفوقات في دفعتها و لازلت أشعر بالحماس كل مرة تحكي لي قصة من قصصها العجيبة بأدغال الكونغو ..