" يسافر المرء، ليس لأن يصل، ولكن لكي يسافر" - جوتة

استيقظت بعد شروق الشمس بقليل، نظرت خارج النافذة فإذا بحقول صفراء واسعة، تلامسها سحب منخفضة من الضباب، يمر الباص الذي أستقله على بلدات صغيرة وبيوت تقرب من الحقول ظني أنها تنتمي للمزارعين. كان المنظر ساحراً وأشبه بالحلم، وجدت فيه شعوراً هائلاً من السكينة. وددت لو يتوقف السائق حتى أنزل وأبقى هنا لبرهة، أو أطول. كل ما كان يراودني في هذه اللحظة هو سؤال: إن كان شيئاً بهذا الجمال موجوداً فلم أنا غائب عنه؟ لو كان هذا الشعور بالسكينة سهل المنال وتافه المتطلبات، فلم الرغبة في التوجه إليه بهذه الصعوبة؟ ماذا يتطلب الأمر حتى يسمح الإنسان لنفسه أن ينعم بهذه اللحظات اليسيرة الممكنة من السعادة؟ أهي الصدفة؟ أم يحركانا الألم والمعاناة إلى إرادة تغيير ما، ومن ثم الانفتاح والتعرض للغير متوقع؟ كانت هذه اللحظة العشوائية حتماً نتيجة ألم ما تراكم ودفعني في آخره لركوب هذا الباص تحديداً والسفر.

ذكراتي في العادة تبدأ – عندما أكتب عنها – بالاستيقاظ من النوم. وذلك لأنني اليوم هو ما قد حلمت به ليلة الأمس. أجد نفسي عاجز تماماً عن الهرب من مواجهة أفكاري ما إذا تمكنت مني أحلامي. وذلك لأن الأحلام هي أكثر طرق التفكير صدقاً، وأقلها مواراة. فما كنت أرهب في قوله في يقظتي سأصرخ به حلمي. وستطاردني فيها أكثر أفكاري ورغباتي جلباً للخجل والعار، وعندما يحدث الأمر، ألجأ للكتابة كما أفعل الآن، هروباً من الوحدة من جهة؛ ألا تحبسني مشاعري ولا أستطيع الخروج، ورغبة في تجميل صورتي وتحايلاً على واقعي وأملاً في استقبال كلمات المدح والاستحسان من جهة أخرى. وفي الأغلب لا يحدث هذا ولا ذاك بالدرجة التي أُمنّي نفسي بها، وأعود للنوم، وتواجهني نفس الأفكار مرة أخرى وأكثر منها. لكن أقول لنفسي عندما أكتب، لن تضر المشاركة والتعبير، طالما أتمسك الصدق، وهو ما أعد به.

على أية حال، لم أستيقظ تلك المرة على حلم، بل على حقيقة، وإن كانت أشبه بالحلم، صحيح أنني كنت نصف نائماً وأخدني الأمر بضع دقائق حتى استوعبت مرمى بصري. كان ذهني بحالة لم يسبق لي أن وجدت نفسي بها بهذا القدر، وهو أمر بات كثير الحدوث في أيامي هذه. ثمة تغير ما يطرأ على عقلي، أعجز عن الحكم عليه، أهو جيد أم سيء، لكن من الحين للآخر أمر بتجربة ذهنية كهذه تبعث على إعادة التفكير في الكثير.

مرت أيام ولا زلت أتذكر هذه اللحظة القصيرة، وأعيش فيها، على ذكرى بسيطة لهذا الإحساس الحلو بأن العالم ليس موحش لوهلة وغير مخيف، وكيف يطلب مني منظرٌ عشوائيٌ، ليس بالضرورة استثنائيٌ، الهدوء والسكينة. كأنه يربت على كتفي بعد الاستيقاظ من نوم غير مريح إثر كابوس مظلم.

قررت في اللحظة نفسها وما بعدها أنني أريد السفر، أو بالأحرى أريد المزيد منه، حيث أنني كنت بالفعل على سفر. فكرت، إن كان مثل هذه المشاعر عشوائي الحدوث بهذا الشكل، فأريد تعريض نفسي للمزيد من هذه الصدف، وهو ما يكفله السفر أحياناً. أريد أن يدفعني الألم هذه المرة إلى الإنطلاق بدلاً من الراحة، وأن أستبدل الخوف بالفضول. لعل في الرحلة الكنز كما يقال.

رتبت لرحلة عشوائية، بدون كثير من التخطيط والانتظار، وانطلقت. قلت لنفسي أنني لا أبحث عن شيء محدد. ولكني أعلم يقيناً في داخلي أنني فقط ذاهب للبحث عن شيء، لكن لم أكن بالشجاعة لأصارح نفسي بالكثير. اكتفيت بقول: سأنتظر وأرى.

وصلت لوجهتي الأولى، وسيكون لرحتلي خمس وجهات أو أكثر، لن أذكر أسمائهم لعدم الأهمية. فلا أدري حقيقةً، ماذا تعني أسماء الأماكن؟ بل ماذا تعني الأماكن نفسها؟ لا يجيد مخي التعامل مع المحيط الملموس، ولا يعني له الكثير، سوى منظر جمالي، أو قبيح. صفات تهم الناقد في داخلي لا أكثر. أما القبح والجمال لا يخلقان إحساساً من ذاتهما. هناك ما هو أبعد، ما يجعل الجميل أحياناً لا يطاق، ومن القبيح محل الراحة والأمان. ما هو هذا الشيء؟ يسميه الناس أحياناً بأسماء قد تعرفها وتردد إلى ذهنك بقراءة هذه السطور. لكني لن أدعي معرفة ما لا أعرفه حقاً، ربما هذا هو ما أبحث عنه. لكن منذ أيام قليلة مثلاً، كان ذاك الشيء مجرد ضباب، واللون الأصفر، والبيوت الصغيرة النائم أصحابها.

قصدت المدينة الأولى للنوم فقط بعد مسافة طويلة بعدتها عن مكان انطلاقي. ومع ذلك دعتني الكمالية إلى الخروج والاستكشاف، كأنني في مهمة لا مجال فيها للراحة. لكن ماذا لو ما كنت أبحث عنه بحق هو مجرد الجلوس بلا هدف أو النوم؟ لكن نظراً لصخب صالة الجلوس وارتفاع درجة الحرارة في غرفة النوم هذا اليوم، فشلت هذه النظرية في الصمود. تعرفت على إحدى الساكنات معي بالغرفة. يكمن أحياناً في التواصل الاجتماعي الكثير من الإلهاء. كأن تبدأ حديثاً غير ضروري رغبة في مرور الوقت بسرعة، وتنجح هذه الطريقة في الأغلب. اعتدت في الماضي أن أتعلق بالغرباء وأخاف من فكرة عدم لقاء شخص للأبد قد خضت مع حوارأ وعرفت من هو وعرف من أنا. كان يؤرقني الأمر بشدة، ولذلك كنت أحرص على تبادل وسائل للتواصل. وبالرغم من أنني كنت أعلم أنه في الأغلب لن يحدث، لكن الأمر كان يقلل من خوفي هذا قليلاً.

في النهاية قررت أن أخرج وحيداً للتمشي في وسط المدينة، وعلى الفور، بدأت أشعر بالوحدة. امتلأ عقلي بالأفكار مجدداً، كنت قد أخذت معي كراستي وأردت الكتابة، لكن منعني المطر الذي بدأ بالانهمار بعد خروجي بقليل. قبعت في مكاني أشاهد الناس بدلاً من ذلك، وبدأت بالطبع في إلقاء الأحكام على المارة، ولكن ليس بشكل شخصي، ليس بداخلي أية ضغينة شخصية لأي فرد على هذا الكوكب، ولكني كثير النقد فيما يتعلق بالمجتمع بأكمله. بت أشعر بالملل سريعاً من نمطية مظاهر الحياة الاجتماعية، ربما نقماً من أن عادات الآخرين ليست قادرة على أن تملأ ذلك الفراغ بداخلي. وتستفزني الازدواجيات، فالناس في مظاهرهم وألقابهم دائما شيء من بين اثنين، إما غني أو فقير، إما مقبول أو منعزل، اجتماعي أو انطوائي، أبيض أو ملون، ذكر أو أنثى. وتتجلى أعراض "حالتي" الإنسانية في هذا الشعور بالخجل من كوني إنساناً عليه المشاركة في هذا النمط الساذج ما إن رغب في الاستمرار في الحياة. وتكمن مشكلتي الوجودية الكبرى في صعوبة تقبل هذا الإرث من العار، وهو عار منتقل ومتحور ومتوارث، ومحفور في داخلي ومتعمق ويكمن فيه بؤسي وشقائي. ولذلك عندما أهرب من وحدتي تلك عن طريق النقد، أقف حائراً، وأتسائل: هل أسرني العالم بمنطقه وأراد انتخاب فقط من لديهم القدرة على الامتثال وتصفية حسابه من غيرهم مثلي؟ أم أنني أحمل العالم ظلماً مسؤولية يأسي هرباً وخوفاً من مواجهة نفسي؟ أيهما سبب الآخر؟ هذا ما أحاول إيجاده عن طريق التعبير عن هذه الأفكار، بأن أكسر الحاجز بين مخي والعالم الخارجي، وأن تكون أفكاري عن المجتمع في متناول المجتمع نفسه، أملاً في بدء حوار ما، ملقياً سؤال ما، باحثاً عن إجابة ما.

رجعت إلى غرفة الفندق بعد كل هذا الغضب المحبوس في عقلي، رغبة في النوم، لكن هيهات إن نعمت بنوم هادئ بعد أن أطلق ذهني شرارة جديدة لمواجهة ضد نظام الدنيا الطبيعي. ولذلك يعاقبنا الجسم بالحرمان من النوم. فلأتحمل مصير ما أخطأت. نمت وكنت استيقظ كل ساعة تقريباً من ساعات الليل الطويل. وبقيت أركل في الوقت حتى جاء الصباح، وبدأ يومي الثاني.

يُتبع...