الثامنة بتوقيت الساعة، الواحدة بتوقيتي الشخصي، لطالما اعتبرت أن الصفحة البيضاء هي الساعة صفر وأن الكلمة الأولى هي مطلع الساعة، أرغب اليوم أن استرسل في الحديث عني… أنا المرأة التي تقف دوما كعقرب في ساعة خربة، يهتز بثبات في محله يتقدم ببطء شديد ومن ثم يَعلق مرة أُخرى، إنني معلقة في صدر الزمان، مصلوبة ربما بين عالمين، مشدودة الأوصال في عالم شائك، عالمٌ قائم على الشك، الشك هو كعبته التي يطوف حولها قاطنيه قاطبة، أنا امرأة شاكة، ومعنى ذلك أنني
مُواطن سابق.. لاجئ حالٍ
الحرب هي ذاك الحدث الذي يُعرفك بشكل واضح وصريح، أنه من السهل جدًا ان تتحول من مواطنٍ إلى لاجئ! هكذا مسافة حرف جر، جرة قلم وينقلب مصيرك .. إنك كمواطنٍ مهما كان تخُلف جواز سفرك، فإنك تمر في المطارات دون مشاكل تُذكر، وليس إطالة النظر في باسبورك أو تأخر ختمه بمشكلة أبدا، ثم إنك كمواطن تقدر أن تظل في بلدك متكيفًا مع الخراء اليومي الذي يُقدمه لك الوطن، لكن الحرب تقذفك في أُتون الجحيم أو اللجوء،وما اللجوء إلا جحيمٌ آخر..
يومٌ للوجع..يومٌ للوحدة.
الحياة ماراثون طويل، يبدأ بصيحة الولادة الأولى وينتهي بالصراخ الأخير! أطالع البشر وهم يركضون أو يتراكضون خلاله، ومواجعهم على ظهورهم، كلٌ يحمل وجعه ولا يفارقه، ملهيٌ به وفيه! وأنا في ذاك كله حائرة، نكرةٌ كغالبهم، أرقب التفاصيل فأخربشها على الورق سرًا، او أبكيها سرًا أيضًا! وأركض ..أركض مع المتراكضين، دون هدفٍ حينًا كغالبهم، وبهدفٍ ساعاتٍ أخرى! أركض.. لأكون ابنةً جيدة، لأب احدودب ظهره، لأكون أختًا ذات نفع، وزوجةً كما ينبغي، ومعالجةً تنفع المرضى، وكاتبةً ذات قلمٍ يانع.. ألهث.. فيخرج الهواء
بهدوءٍ حد الهلع..
كتبت دومًا "أخاف أن أتوقف عن الركض يومًا فأجدني حيث بدأت" لكني اليوم أعرف أن المُخيف حقيقةً هو أن تتوقف! ذات عملٍ تطوعي، صممت هدايا صغيرة بعباراتٍ مُختلقة، كان من بينها " المهم في الحياة ألا تقف مُتفرجًا" لازلت متأرجحة بين اليقين والشك، بين القلق والسكينة، بين الجدوى وانعدامها، إلا أني ما أفتأ أحاول! يقول أحمد تعقيبًا على رغبتي التطوع مع منظمة ما " كأن ما ينقصك أن تُدرسي صغارًا في بلدٍ بعيد" ضاحكًا يقول، متهكمًا ربما، فتتنازعني التساؤلات والحيرة،
الرب الذي يُزيد حمولتي!
خلال المُكالمة الأولى كانت تبكي، في الثانية كانت تسأل بطريقةٍ منطقية مُرتاحةً حتى أنها ضحكت! ساعة بكت بكيت، وساعة تنهدت أسىً أسيت، وساعة حكت متأملة، تأمّلت، لأنني أعرف ،لأنني جربت، لأنني اختبرت المرض والألم، الألم والخوف! حين نشجت، نشجت فأنا أُدرك الألم والوحدة في الألم، "مش عايزة أتبهدل، لأن الحياة أصلًا صعبة، لأني بأعاني" لأني سألت الرب ساعتئذ "كيف تزيد حمولتي وأنا بالكاد أجرجر قدمي" شُخِّصت بورمٍ خبيث في الثدي والغدد الليمفاوية، عقب تغير طفيفٍ لاحَظتْه، أَجرت فحصًا على سبيل
قلمٌ جافٌ.. ورقة خالية
آمنت أن الكتابة ستأكل الأوهام التي تسكنني! لكن حين قالت المُعالجة دوّني، فعلت الأمر مُستثقلة... كنت أكتب بروتينية وملل كواجبٍ يؤديه طالبٌ بليد، مع الوقت لاحظت ما لها من تأثيرٍ مُخفف للدوشة العقلية التي تقسمني كل ليلة فتذرني قاعًا صفصفَا ! بعض الكلمات أقتنصها، وبعضها يقنصني، أهرب منها، قالت لي اكتبي عما يوجعك " متخافيش" وكنت قد بدأت ذلك فعلًا، فعل الكتابة يُجرؤنا على أوجاعنا ! " عندما نلمس جراحنا القديمة بقلم" أستعيد موقف علي فأكتبه، أذكر حادثتي فأخربش كلمات
الحرب التي علّمتنا الأدب
المُفارقة أن ذلك سيخلق أدبًا! نصوصٌ سخية، ولغة خلابةٌ ستكون، وصفٌ مُعبر سيورث في النفس أسى عذبًا، ودمعةً آسرة ! لا أعرف هل لنا أن نحمد الحروب لأنها تُخرج وستخرج لنا ذاك الأدب الخلاب، أم نحمد الأدب أنه يَخرج لنا من ركام الحرب عذوبة ! كل شخصٍ، كل صغيرٍ، كل كبير، كل حيوانٍ، وكل جمادٍ وحجارة هي مشروعٌ أدبي كبير! الأدب هو كل ما لا يمكن سرده بأي طريقة أُخرى، هو ذاك الواقع اللاواقعي، وتلك الحقيقة العصية على التبلغ، الأدب
الطب الذي لا يشفينا!
يخرج ممسكًا هاتفه متطلعًا فيه، تسأله المرأة: طمنا يا دكتور ،العملية كويسة؟ يرد بعد عشر ثوان دون أن يحرك عينه عن شاشة الهاتف المُنشغل به: آه كويسة تتنهد: الحمد لله تسلم ايديك يا دكتور. يقول: آه كان عمليتين كبار خلي بالك ،يعيد عينه سريعّا لهاتفه: مش واحدة بس الموضوع كان صعب بس الحمد الله. يظل واقفًا أمام باب العمليات الخارجي يُطالع هاتفه بانغماسٍ تام وذوو المريض أمامه! وجهٌ جامد دون انفعالات، بارد الفعل والقول! أتأمل المشهد خلسةٌ، بين لهفة ذوي