الحياة ماراثون طويل، يبدأ بصيحة الولادة الأولى وينتهي بالصراخ الأخير!
أطالع البشر وهم يركضون أو يتراكضون خلاله، ومواجعهم على ظهورهم، كلٌ يحمل وجعه ولا يفارقه، ملهيٌ به وفيه!
وأنا في ذاك كله حائرة، نكرةٌ كغالبهم، أرقب التفاصيل فأخربشها على الورق سرًا، او أبكيها سرًا أيضًا!
وأركض ..أركض مع المتراكضين، دون هدفٍ حينًا كغالبهم، وبهدفٍ ساعاتٍ أخرى!
أركض.. لأكون ابنةً جيدة، لأب احدودب ظهره، لأكون أختًا ذات نفع، وزوجةً كما ينبغي، ومعالجةً تنفع المرضى، وكاتبةً ذات قلمٍ يانع..
ألهث.. فيخرج الهواء من رئتاي.. أختنق.. حتى أرتشف هواءً يُمكنني من الركض مُجددًا حد اللهاث... فتفرغ رئتاي من الهواء ... حتى أرتشف رشفةً تعيدني للحلبة ..حتى ألهث فأختنق فـ... وهكذا دواليك!
وفي كل مرةٍ.. لو حاولت أن تتوقف ساعةً وجدت الدافعين خلفك.. سمعت أصوات الصائحين..اللائمين حينًا والمحفزين ساعةً، فتدخل حلبة الركض بلا توقف..وبلا هدف!
لكني اليوم..والآن.. أظن أنه يمكن أن أتوقف؛ لأبكي.. لأُسقط ماء العين، وأحركه بين السبابة والإبهام لألمسه،
متذوقةً إياه..
يُمكن الآن أن أستمتع ببكاء تجمد فترةً..لأسباب كثيرة.. يمكنني أن أذرفه لأقول: اييه لك وحشة..طال انتظارك.. أن أبتلعه..وأزدرد غضاضته شاكرة..
أن أصوغه كلمة على صفحةٍ فارغة، أن أطالع صفحة وجهي مدهونةً بالدمع!
يمكنني أن آخذ فاصلًا، لأبكي كل ما لم يُبكَ كفايةً،أو لم يبكَ من الأساس، لدميتي التي أُخذت مني، لفردة حذائها الوحيدة التي بقيت، لإنقاص حقي في الحزن عليها،
يمكنني أن أبكي على درجة الرياضيات المُجحفة، وعلى معلم العلوم القاسي الذي ضربني خرزانةً رُغم أني لم أتكلم!
أروم البكاء على ساعات الإنتظار الطويلة على رصيف المدرسة قبل أن يأتي أحدهم ليأخذني، لوحدتي الطويلة..الطويــ ــلة!
يمكنني أن أخصص يومًا لكل أسىً عشته.. أو يومين..يومٌ للوجع..ويومًا لوحدتي فيه!
أريد أن أتمدد مُجاورةً تلك الدموع.. وأقول للمحيطين حين يسألون ماذا تفعلين تلك الأيام؟ فأجيب بأريحيةٍ كاملة: أبكي!
لأبكي نشيجًا، على المساعي التي لم تودي لنتائج، على المُسابقة التي لم أفز بها، على النصوص التي لم تنشر، عن ليالي التعب المُضنية التي ذهبت هباءًا!
أن آسى على كلمة " مبروك" التي لم تُقل، وعبارة " إيه الجمال ده" التي تلمستها ولم أجدها، على الخطط المؤجلة، والأحلام التي نسكب أرواحنا فيها، فتغادرنا الروح والحُلم!
أرغب بالبكاء، لأني حُرمت منه في مواطئ كثيرة، حين قال أبي" انت كبيرة ميصحش تبكي قدام الناس كده" أن أبكي لكل مرة بكيت فيها وللمرات التي حبست الدموع في حلقي لأن البكاء أمام الآخرين ضعف، لأن الضعف مذموم!
سأذرف على أصغر المآسي و أعظمها.. بدءًا من المصاصة التي سقطت مني ولم أستطع إكمالها.. حتى ليالي الوجع الطويـلة... حتى مخاوفي التي لم أجرؤ على مشاركتها يومًا!
أود أن أُمعن في البكاء، ليأخذ حقه وآخذ حقي المبخوس غالبًا في الحزن!
يمكنني الآن أن أبكي..يمكنني الآن أن أكتب..