وفي كل عام، في أول يوم من رمضان، يتكرر المشهد، وتتكرر الدهشة والشعور الغامر بالعظمة؛ عظمة تلك الجموع التي تملأ المساجد.

صليت فجر أول يوم في رمضان في المسجد، فتفاجأت من العدد الكبير للمصلين، ثم في صلاة العصر، ذهبت لمسجد الحي الكبير، ذهبت إليه باكراً، وصلت المسجد فور انتهاء الأذان مباشرة، لكني للأسف لم أجد موضع قدم في الداخل، لقد امتلأ المسجد عن بكرة أبيه قبل أن يكمل المؤذن مهمته، فما كان مني إلا أن أخذت نفسي وبحثت عن مسجد آخر.

لقد تذكرت أن هذه الدهشة تتكرر في كل عام، في أول رمضان، دهشتي من الناس كيف يقبلون على الصلوات في المساجد، ودهشتي من نفسي كي تنقاد بكل سهولة إلى بيوت الله، وأعتقد أن لديك مثل هذه الدهشة من نفسك، ألم تستغرب من نفسك كي تدفعك كلما نادي المؤذن، ألم تجد تلك اللذة والحلاوة حين وقفت بين المصلين، ثم ذلك الشعور بالطمأنينة بعد الانتهاء من الصلاة، ألم تسبح نفسك في هدوء الكون وعظمة الوجود وأنت هناك، وسط تلك الجموع المتوضئة.

إنه رمضان العجيب …

ذلك الشهر الذي تتنزل فيه رحمات الله لتعم العباد، فكل من عانا من جور البعد وصعوبة الالتزام هو موعود في هذه الأيام المباركة بسهولة السير إلى الله، بحلاوة العبادة، وما عليه إلا أن يترك نفسه لتلك الرحمات كي تسوقه سوقاً، وتقوده بكل هدوء إلى مصادر النور … (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ….)

الله ما أجمل رمضان، ما أجمل المساجد المليئة بالمصلين، ما أجمل تلك الساعة التي تختلي فيها مع كتاب الله في بيت من بيوت الله، فتسبح في خضم الآيات الجليلة، تبحر لا تلوي على شيء سوى استكشاف اسرار الوجود، تتلقى كلمات الله التي تهبط على قلبك فتعيد صياغته، تعبر بخيالك حدود الزمان والمكان وتعيش أدوار المرسلين وتمتطي خيول المجاهدين، ثم تعود إلى حياتك الدنيا، وتهدأ، وربما تبكي، ثم تخشع، فلا تخرج من المسجد إلا بطاقة تملأ عالمك الصغير بالحماس والشوق، فترى بها الحياة بشكل مختلف.

دعونى نتوقف عن التحدث عن أول رمضان، فنحن الآن قد قاربنا على البدء في المرحة الجديدة، والخطيرة في نفس الوقت …

إن كانت نفوسنا ستقودنا إلى الله بدون جهد منا، فأين الاختبار إذن؟ وكيف يعرف المجتهدين من الكسالى والعاطلين؟

إن تلك الأيام ما تلبث أن تنقضي، ثم تأتي أيام أخر، تتبدل فيها الأدوار، فبعد أن كانت نفسك هي من تسوقك، يصبح الدور عليك أنت، أنت من عليه أن يقود نفسه وتجبرها على الاستمرار في السير، لقد أطعمك الله من رحيق النعيم رشفة صغيرة، رحمة منه، وعليك الآن أن تتمسك وتكمل المشوار، مشوار الثلاثين يوم، فمن يصبر ويستمر، يجد الفتوحات الربانية في الأيام الأخيرة.

ستكسل نفسك عن القيام، ستتقاعس عن إكمال الأوراد والأذكار، سوف وسوف وسوف، وما عليك إلا أن تلتزم بما عزمت عليه، إن كنت قد عزمت على شيء، وهنا مشكلة أخرى، هي عدم الاتفاق مع النفس على خطوط حمراء لا يجب أن تجاوزها في رمضان، أو سمها إن شئت خطة (رمضانية)، كي يمضي عليها في رمضان، حتى إذا ما بدأت مرحلة التكاسل والتنصل، يذكرها بما تم الاتفاق عليه، ويكشر عن أنيابه ليخيفها، كي تمضي على الصراط المستقيم، والنهج القويم.

إن لم تقم بتلك الخطوة قبل رمضان، فلا مشكلة، قم بها الآن، اعزم على أن لا تخرج من المسجد في التراويح إلا بعد إن يقوم الإمام، واعزم على عدم تفويت تكبيرات الاحرام، ولا تنسى، تلك الساعة التي تبحر فيها مع آيات الله الجميلة.

إنه رمضان العجيب يا سادة …

رمضان الذي هو هدية الرحمان لعبادة المساكين، وكلنا مساكين، التائهين في دروب الحياة، الغافلين عن حقيقة الوجود، المتذبذبين بين هنا وهناك، المتخبطين وسط سياط الإرادات، فساعة تريد هذا، وساعة تريد ذاك.

رمضان الذي هو نقطة تغيير، فكم من شخص في هذا العالم قد تغير، والسبب: رمضان، وكم من إنسان قد سلك الطريق إنطلاقاً من رمضان، وكم من بعيد قد تذوق نعيم القرب في رمضان.

إن رمضان ليس الهدف، بل ما بعد رمضان، بل الحياة بأكملها هي الهدف، هي من يجب أن تعاد صياغته، لكن الصياغة صعبة، وخاصة في عالم اليوم المليئ بالملهيات والمشتتات، كيف لنا أن نقوم ونخرج من رحم الغفلة، ولهذا السبب يأتينا رمضان كل سنة، هو الخيط الممتد من السماء والمخترق لطبقات الأرض، حتى يصل لكل شخص، سواءً ذاك الذي يتخبط قريباً من السطح، أو من هو غارق مدفون في الأعماق، فالحبل طويل ويصل للجميع.

إنه رمضان العجيب يا سادة يا كرام …

إن في عالم الوجود أسرار وخفايا يصعب علينا إدراك كنهها وآلية عملها، ومن أهم تلك الجائب: رمضان.