الرجل الذي نسي ملامحه

نهض من مقعده كمن يهرب من ظلّه، دفع ثمن قهوته الباردة ومضى. في الخارج، كانت الرياح تعبر الشوارع كيدٍ خشنةٍ تربت على كتف مدينة نائمة. الثلج، تحت الأقدام المتعجلة، فقد بياضه واستحال وحلاً يشبه قصصاً لم يكتب لها أن تبدأ.

مشا، يراقب الوجوه المتشابهة، الخطوات التي تسابق الوقت، الأيدي المدسوسة في جيوبها كأنها تخفي سراً ثقيلاً. المحال تصطف بجانب بعضها، أضواؤها تتراقص على زجاج النوافذ، تعكس ملامح غرباء لا يهتمون سوى بالوصول إلى مكان دافئ. لكنه لم يكن يبحث عن الدفء، بل عن شيء آخر… شيء لم يفهمه تمامًا، لكنه شعر أنه يناديه من أعماق الطرقات.

استسلم لقدميه، تتبع الشوارع المتعرجة كما يتبع المرء خيطًا يقوده إلى ماضيه. كلما خطا خطوة، ازداد البرد، لكنه لم يكن برودة الطقس وحده، بل برودة الفراغ الذي يملأ صدره. اختفت المباني اللامعة، وانكمشت المدينة خلفه، ليجد نفسه أمام أطرافها القديمة، حيث البيوت المتعبة تنحني كأشخاصٍ أثقلهم الزمن.

وقف أمام منزلٍ يئنُّ تحت وطأة الزمن، بابٌ مُشوَّهٌ تآكلت حروف اسمه، ونوافذُ مُنهَكةٌ تتنفَّس عبر شقوقها صوتًا أشبه بأنين. رفع يده، وتردد للحظة، ثم مرر أصابعه فوق الخشب العتيق. كان ملمسه خشناً، لكنه مألوف. تحسس المقبض، شعر بالبرودة تسري في راحة يده، لكنها لم تكن برودة منفرة، بل كانت كيدٍ قديمة تمتد لتقول له: "أنت ما زلت هنا."

دفع الباب برفق، فتحت له الذكرى ذراعيها. دخل كمن يعبر بوابة الزمن، عيناه تتجولان بين الجدران، بين الأثاث المغطى بطبقة رقيقة من الغبار، بين الصور المعلقة التي بهتت مع الأيام. لمس الطاولة الخشبية في الزاوية، حيث جلس يومًا، يكتب أحلامه على ورق لم يصمد أمام الواقع. مرر أصابعه فوق النافذة، تذكر كيف كان يراقب منها العالم بعينين مملوءتين بالدهشة، قبل أن تخبو الدهشة وتتحول إلى تعب.

كان هذا المكان قديمًا، متآكلًا، منسيًا… لكنه المكان الوحيد الذي شعر فيه بشيء يشبه الحياة. لم يكن يعرف لماذا عاد، ولم يكن يدري إلى متى سيبقى، لكنه أدرك شيئًا واحدًا… هذا الشعور الذي يرفض الموت، هذا الحنين الذي يشتعل في روحه، ربما يكون الشيء الوحيد الذي يبقيه على قيد البقاء.

سعل سعالًا جافًا، تمزقت معه لحظة الصمت، كأن صدره يخبره أن الغد لم يكن يوماً وعداً حقيقياً، تناهى إلى نظره دفتر قديم، مفتوح على صفحة بيضاء… كأنها انتظرته منذ زمن، خطا نحوه ببطء، يجر قدميه كما لو كان يقترب من ماضٍ لم يُغلق بابه تمامًا. جلس بالقرب منه، استخرج قلمًا من جيب سترته، تردد للحظة، ثم مد يده. وبمجرد أن لامس طرف القلم الورقة، لم يترك أثرًا من حبر، بل انفتحت الهاوية.

دوامة سوداء انبثقت من العدم، تشظى معها كل شيء. لم يكن هناك صوت، لم تكن هناك كلمة أخيرة. فقط الفراغ، يبتلع ذاكرته، يبتلع جسده، يبتلع كل شيء فيه، كجرحٍ قديمٍ قرر أن يبتلع صاحبه، فاختفى دون أن يترك كلمة.