من لا يُسحر برائحة جميلة أو يُفتتن بعطر! لكن متى عرف الإنسان العطر وكيف وصل إلينا على هيئته الحالية، هناك العديد من النظريات عندما يتعلّق الأمر بمصدر العطور، لكن الأكثر شيوعاً هو بداءتها في بلاد ما بين النهرين، وبلاد فارس ومصر القديمة ويشار لتلك الحضارات بأوائل من ابتدع العطر.
عند المصريين القدماء
اعتبره المصريون قديماً عرق إله الشمس رع كما كان لهم إلهاً للعطر يدعى "نفرتوم" الذي يرتدي عُصابة رأس مصنوعة من الزنابق المائية، لذلك مُنحت للعطر صفة مقدّسة، والزنابق التي سبق المصريون استخدامها بآلاف السنين تُعدّ اليوم من أكثر المصادر شيوعاً لتركيب العطور من زيوتها.
بين الطبقات المخمليّة والكهنة فقط!
انحصر استخدام الروائح العطرة المستخلصة من الأزهار وأوراق النباتات العطرية في العائلات الغنية، فبعد تحضيرها كانت تحفظ في أواني خزفيّة أو فخارية لتستخدمها لاحقاً الملكات وزوجات الأمراء للتزيّن به عند الاحتفالات، أو من قبل الكهنة لتقديمه للآلهة كقرابين أو لتكريم موتاهم، ولم يكن رائِجاً لطبقات الشعب العادية.
أول صانعة للعطر في التاريخ
يشار إلى بلاد ما بين النهرين بالحضارات التي كانت من أول من أبدع وصنّع العطور في العالم، وعُرف عن "تابيوتي" Tapiotti"" مبتكرة العطر الأول في التاريخ، وكانت تتولّى مَنصباً رفيعاً في بابل القديمة، حيث أظهرت النصوص الطينية أنها كانت المشرف الرسمي على صناعة العطور في القصر الملكي، وبالرغم من ضآلة المعلومات عنها إلا أنّ التاريخ تركنا مع إحدى وصفاتها وهي إعداد مرهم عطري للملك البابلي، في هذا الأثر الرائع، تأخذ تابوتي القارئ خطوة بخطوة لإنتاج مرهم ملكي يتكون من الماء، والزهور، والزيت ومادة أخرى تسمى "الكالاموس" (عشب الليمون أو نبات يشبه القصب) حيث لا يزال يُستخدم في صناعة العطور حتى اليوم.
سياسيين في لوحات بجانب قارورة عطر
أُعجب الفرس أيضاً بالعطور واستخدموها كرمز للوضع السياسي، وصوّر الكثير من الزعماء السياسيين لديهم في الصور بجانب قارورات من العطر في لوحاتهم الفارسية.
بعد ذلك انتقلت العطور للرومان والإغريق بعد سيطرتهم على بلاد فارس وتعرّفوا عليها وعدّوها فنّاً راقياً ونشروها في كل العالم.
في العام 1190 انتشرت العطور في جميع أنحاء العالم، وبمجرد وصولها إلى باريس، عرفت نمواً تجارياً وازدهرت لتصبح الصناعة الضخمة التي نعرفها اليوم.
عطر الملكة الشخصي " هنغاريا ووتر"
يعدّ المجريون أول من أدخل العطور كمنتج حديث بشكله الحالي، وصُنع من مزج زيوت معطرة في محلول كحولي، حيث صنّعوا عطراً لاستخدام ملكتهم الشخصي إليزابيث وأصبح معروفاً في جميع أنحاء أوروبا باسم هنغاريا ووتر.
مصادر العطور
هيمنت تاريخياً المكونات الطبيعية على صناعة العطور كالزعتر وإكليل الجبل، وتعدّ الأغلى سعراً في العالم بسبب ندرتها أو لقلة مواسم إنتاجها، كالياسمين، والبنفسج، والعود، والمسك، والسوسن، والعنبر "المادة التي تُجلب من حيتان العنبر"، ولكن جوهر العطر يستخرج من مصادر أخرى غير الأزهار، كالخشب ولا سيما خشب الأرز وخشب الصندل، ومن الأوراق مثل النعناع والغرنوق والخزامى، ومن جذور معينة مثل الزنجبيل والسوسن.
فن قبل أن يكون مهنة
ينظر العطّارون الملقبّين أيضاً "بالأنوف"، إلى مهنتهم على أنها فن فريد من نوعه، ويهتم هذا الفن بالملذات التي تسعى إليها حاسة شمنا، وبالتالي فإنهم يمشون في حديقة من الروائح بحثاً عن الإلهام، لتصميم عطر جديد، ويملكون ما يقارب 1000 مادة أولية طبيعية وما يزيد قليلاً عن 500 مادة تركيبية أو كيميائية، هذه الأخيرة تحل محل ما تنتجه الطبيعة بسعر باهظ الثمن ولا يمكن الحصول عليه، وهناك مواد أولية فريدة لا تنتجها الطبيعة على الإطلاق.
تركيب العطر بين القديم "المهمل" والحديث "الفعال"
قبل أن يحصل صانعي العطور على المكونات اللازمة لإنشاء العطور، يتم القيام بعمليات مختلفة لاستخراج المواد الأولية العطرية، بعضها قديمة جداً وبعضها أكثر حداثة، وتستخدم بعض الطرق لاستخراج الزيوت العطرية الحساسة، وتستعمل الطرق الأخرى للحصول على الزيوت الأساسية.
هناك طريقتان لاستخراج العطور "الحساسة" "absolute"
الطريقة الأولى "طريقة التشريب في الدهن" لصناعة العطور وهي طريقة استخلاص تقليدية مهملة،
ويعتبر التشريب في الدهن من أقدم الطرق لاستخراج المواد الأولية العطرية، حيث ترتكز هذه الطريقة على امتصاص الجزيئات العطرية الموجودة في الأزهار من طرف مادة دهنية.
يمكن أن تكون هذه الدهون زيوت زيتون أو لوز أو دهون حيوانية نقية، وانتشرت هذه الطريقة خلال القرن الثامن عشر في "جراس" بفرنسا. ولهذه الطريقة قسمان مختلفتان للتشريب في الدهن، ولهما نفس المبدأ، ويتم التمييز بين التشريب في الدهن الساخن والبارد وفقاً لمقاومة المادة للحرارة.
*التشريب في الدهن الساخن: أقدم الطريقتين، وهي تتكون من نقع الأزهار في دهون أو زيوت مذابة. يتم تسخينها حتى تمتص جزيئات الأزهار العطرة، وبمجرد اكتمال العملية، يتم ترشيح المواد الدهنية من خلال الأنسجة.
المادة المعطرة التي تظهر تسمى “مرهم زهري”، ثم يتم غسلها بالكحول وفصلها عن دهنها لتصبح خلاصة مركزة من العطور و هو الزيت العطري الحساس .
*التشريب في الدهن البارد: تم تطوير هذه الطريقة في جراس، عاصمة العطور، خلال منتصف القرن الثامن عشر. وهي عبارة عن ملامسة الأزهار العطرية لدهن بارد عديم الرائحة. يمتص الدهن جزيئات الأزهار العطرة ثم يذوب للحصول على مرهم زهري. سيتم ترشيح الأخير بنفس الطريقة كما هو الحال في التشريب في الدهن الساخن. تم إنشاء هذه الطريقة الثانية لاستخراج جزيئات الرائحة من الأزهار الهشة غير المقاومة للحرارة مثل الياسمين.
علاوة على ذلك وبفضل التقدم التكنولوجي، نادراً ما يتم استخدام طريقة الاستخراج هذه في صناعة العطور اليوم.
التقطير في صناعة العطور، عملية استخلاص موروثة ولاتزال تستخدم
يعد التقطير بالبخار أكثر طرق الاستخلاص استخداماً للحصول على الزيوت الأساسية في صناعة العطور، وتعدّ هذه العملية موجودة منذ عدة قرون وتم تقديمها إلى أوروبا من قبل العرب في القرن العاشر تقريباً، فبعد أن توضع المواد الطبيعية كالأزهار في إنبيق إما مباشرة أو على رفوف لها ثقوب لمنع الزهور من سحق بعضها البعض، يتم بعد ذلك إدخال بخار ماء، من أجل سحب الجزيئات العطرية الموجودة في الأزهار أثناء مرور البخار بها، ليرتفع البخار بعد ذلك في عنق الانبيق ويتم تبريده في عمود تبريد من أجل استرجاع الحالة السائلة للماء.
من هنا يتم الحصول على خليط من الزيت العطري والمياه التي من شأنها أن تكون مفصولة، وهذه العملية بسيطة نسبياً باعتبار الزيت العطري غير قابل للذوبان في الماء، لأنه أكثر كثافة فهو يطفو بشكل طبيعي فوق هذا الزيت، الماء المتبقي أسفل الزيت العطري له رائحة خفيفة، ولهذا يطلق عليه اسم الماء الزهري.
وبعيداً عن الورد والعطور، ثمة من يعشق رائحة التراب بعد المطر، أو رائحة البحر، أو رائحة القهوة الطازجة أو الخبز المحمص، أو رائحة أنواع الحطب الذي يحترق، كالصندل والشيح والقيصوم والسلماس، لكن يبقى للعطر واستخدامه ذائقة وهوية تختلف من شخص لشخص.
التعليقات