• في الجزء السابق:

... بعد أن توصل زوسه إلى استخدام المرحلات في صناعة الدوائر التي تستطيع التعامل مع العمليات الحاسبية المعتمدة على الأرقام الثنائية، أصبحت فكرة أن الدوائر الرقمية ستكون مفتاح الحوسبة واضحة أمام الباحثين في كل مكان ...

.

.

.

  • أتاناسوف وموتشلي وإيكرت:

(1)

ما زلنا في عام 1937، العام الأكثر أهمية في تاريخ الثورة الرقمية،  كان هناك مخترع آخر "جون فينسنت أتاناسوف" يقوم بالتجارب على الدوائر الرقمية، واستطاع تحقيق ابتكار تاريخي وهو بناء آلة حاسبة باستخدام الصمامات المفرغة التي تعمل كمفاتيح فتح وغلق  تعمل على حل دالة البوابات المنطقية في دائرة يمكنها القيام بالجمع والطرح وحل أية دالة، كان أتاناسوف يحاول جاهداً لأن يتوصل إلى طريقة يقوم بها بتخزين الأرقام في الآلة، وفي إحدى ليالي الشتاء عندما قاد أتاناسوف سيارته لتصفية ذهنه، ابتعد 300 كم عن المكان الذي بدأ منه، ولكنه في النهاية توصل إلى فكرة إعادة شحن المكثفات لتسجيل الأرقام ثم استخدام دائرة صمامات مفرغة من أجل إضافة الأرقام وطرحها ووضع النتيجة في الذاكرة.

في عام 1942 كاد أن ينتهي أتاناسوف من نموذجه الكامل ولكن البحرية الأمريكية قد قامت بتجنيده وإرساله إلى مختبرها العلمي، وذهب نموذج أتاناسوف إلى مزبلة التاريخ بالمعنى الحرفي والمجازي، حيث تم تخزينه في قبو مبنى الفيزياء في جامعة أيوا وبعد سنوات من أجل الحاجة لمكان خال قام أحد الطلاب بتفكيك الآلة ورمي معظم أجزائها بدون علم منه بأهميتها، ولكن أحد الأشخاص الذين يحبون اختطاف الأفكار أنقذ أتاناسوف من النسيان في غياهب التاريخ، حين سرق فكرته عندما قام بزيارته.

(2)

"جون ماوتشلي" عالم كان يتوق إلى اختراع آلة تستطيع إجراء عمليات حسابية مرهقة التي كان يكلف هو بالقيام بها، كان ماوشتلي يحب تبادل الأفكار، حتى قابل أتاناسوف صدفة في عام 1940 وأخبره بأمله في بناء آلة تقوم بتحليل بيانات الطقس، حينها أخبره أتاناسوف عن محاولته بيناء آلة حاسبة إلكترونية غير مكلفة، أعرب ماوتشلي عن رغبته برؤية كيفية بناء الآلة ودعاه أتاناسوف إلى القدوم إلى ولاية أيوا.

دامت الزيارة أربعة أيام، أعجب ماوتشلي بفكرة استخدام المكثفات وإعادة شحنها، وانتهت الزيارة بحصول ماوتشلي على مجموعة من الأفكار الصغيرة التي اضافها لسلة الأفكار التي كان يقوم بجمعها ويعتبرها ثمرة جهده الخاص وليست سرقة. تنطبق على ذلك مقولة أينشتاين:

" تأتي الأفكار الجديدة فجأة وبطريقة حدسية، ولكن الحدس ليس إلا نتاج الخبرات الفكرية السابقة"

(3)

على خلاف أتاناسوف، سنحت لماوتشلي الفرصة للتعاون مع فريق آخر من الموهوبين، وبدلاً من إنتاج آلة لم تعمل بكل طاقتها وتركت في غياهب القبو، سجل ماوتشلي وفريقه أسماءهم في صفحات تاريخ اختراع أول حاسب إلكتروني متعدد الأغراض.

تقوم الحرب بدفع العلم قدماً على الدوام، ولقد تسبب دخول الولايات المتحدة الحرب في عام 1941 في ظهور دافع لتمويل الآلة التي كان ماوتشلي يقوم بابتكارها بالتعاون مع مهندس يدعى "جيه. برسبر إيكرت"، حيث كانت هناك حاجة لحاسب يقوم بحساب مسار المقذوفات بدلاً من أجهزة التحليل التفاضلي التي اخترعها فاينفار بوش في 1931.

  • الحاسبان إنياك وكولوسس:

(1)

في يونيو 1943 بدأ إنشاء الحاسب ENIAC (إنياك) الذي صمم بغرض التعامل مع المعادلات التفاضلية وكتب عنه ماوتشلي أنه يحتوي على أداة برمجة تتيح له القيام بمهام أخرى، ما يجعله حاسباً متعدد الأغراض، عمل ماوتشلي مستشاراً ومقدماً للأفكار الجديدة، وكان جولدشتين، مندوب الجيش، يشرف على العمليات والميزانيات، وكان إيكرت يعمل كبير المهندسين وكان يكرس كل وقته للمشروع لدرجة أنه كان ينام بجوار الآلة.

كان إنياك حاسباً رقمياً ولكنه اعتمد على نظام الأرقام العشرية وليس الأرقام الثنائية (الصفر والواحد)، لذلك لم يكن يشبه حاسباً حديثاً ولكنه بالرغم من ذلك كان أكثر تقدماً من الآلات التي بناها أتاناسوف وزوسه وأيكن. تطلب الأمر حتى عام 1945 لكي يعمل الحاسب بكامل طاقته وأصبح قادراً على أداء خمسة آلاف عملية جمع وطرح خلال ثانية واحدة، بينما كان حاسب أتاناسوف يقوم بثلاثين عملية حسابية فقط.

(2)

في نفس التوقيت، كان البريطانييون يقومون ببناء حاسب الكتروني آخر يستخدم الصمامات المفرغة سراً، حيث عزل البريطانيون فريقاً من العباقرة والمهندسين من أجل فك شفرات الألمان خلال وقت الحرب، وبذلك قبل أن ينتهي بناء الحاسب إنياك، كان هناك الحاسب "كولوسس" الذي يعمل بنظام الأرقام الثنائي ولكنه على خلاف الحاسب إنياك كان يقوم بمهمة خاصة وهي فك الشفرات ولم يكن حاسباً متعدد الأغراض.

إذن ..

  • من اخترع الحاسب الآلي؟

عندما نقوم بنسب الفضل فيما يتعلق بأحد الابتكارات، نقوم بتحديد هوية الشخص الذي كان لإسهامه أبلغ التأثير، وباستخدام هذا المعيار، يعتبر إيكرت وماوتشلي أكثر المبدعين جدارة بالذكر، ومن الصعب تقديم عليهم تأثير فلاوزر ونيومان وتورنج الذين عملوا على الحاسب البريطاني وقت الحرب، فلقد كان عملهم غاية في السرية، وكان تأثير زوسه الذي كان يعمل منفردا خلال قصف برلين أقل منهم، وبالنسبة لأتاناسوف فلقد كان تأثيره الوحيد ينبع من الأفكار القليلة التي استلهمها ماوتشلي منه عندما قام بزيارته، ولقد تحولت هذه المسألة الأخيرة إلى نزاع قانوني طويل حول نسب الفضل في الابتكار، ورغم أن القضية لم تحدد، فإن هناك آثار مهمة ترتبت عليها، منها أن أخرجت أتاناسوف من غياهب التاريخ وأظهرت بوضوح أن الابتكارات العظيمة تكون نتيجة الأفكار التي تتدفق من مجموعة كبيرة من المصادر بشكل جماعي، ولا تأتي الابتكارات العظيمة من رأس فرد منعزل في قبو أو في مرآب إلا في الحكايات القصيرة فقط.