عندما هممت بقراءة ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور أول مرة، وجدت نفسي في مواجهة نص غريب عن ذائقتي، تركني في حالة من الحيرة، لا أبالغ إن قلت أني وجدت صعوبة في فهم واستصاغة الكلام، ربما ذلك لأني كنت صغيرا أو غير متعود على أسلوبه، تركته زمنا ثم عدت اليه لاحقا، الشاهد، جعلني هذا أتساءل: لو كانت قراءة الكتاب مربوطة بفترة محدّدة لكونه جزءا من دراستي أو من مشروع مثلا، لم أكن لأملك حرية تأجيل قرائته بقدر ما كان سيكون لزاما علي محاولة فهمه كالبحث عن شروحاته والنقاشات حوله لإنجاز ماعلي من جهة ولتوسيع مدارك عقلي من جهة أخرى، فإن سبق وتعاملتم مع كتاب غامض أجبركم على الخروج من منطقة الراحة اللغوية والأسلوبية المتعودين عليها، وكنتم مجبرين على قرائته، كيف تصرفتم؟
عندما تُجبَر على قراءة كتاب لاتفهم منه شيئا، ماذا تفعل؟
في الحقيقة تلك المشكلة بالتحديد واجهتني في كتب د عبد الوهاب المسيري التي تناقش وتشرح طبيعة اليهود من منظور علمي وتاريخي وأنساني والتي كانت تحمل طابع علمياً تحليلي معقد يمتلئ بالمصطلحات الصعبة ، ولكنه رغم ذلك تعد دراسته هي مرجعية علمية سليمة في كل موضع أختص بها ، ولكنها بالوقت نفسه تستلزم بذاتها للقارئ المثقف أن يكون هو بنفسه باحثاً أكاديمياً ليفهم الكثير من المصطلحات الصعبة ، وبالتالي الكتب لم تكن موجهة بأي حال للقارئ العادي ولا حتى المثقف بشكل بسيط لأنه سيعتقد إنها (تتعالى عليه) حتى وإن كان أسلوب الطرح [لم يتعمد الوصول لتلك النتيجة] لذا كانت تلك التجربة تحمل مشقة كبيرة في قرائتها ومشقة أكبر في محاولة تفسير مصطلحاتها المعقدة بالبحث، ولم يكن وقتها متوفر مثلاً نماذج بحث بالذكاء الاصطناعي تجعل من السهل إدراج أي مصطلح وفهم معناه في أقل من ثانية ، لذا ينبغي علي أن أشكرك لسبب بسيط أنك جعلتني أستعيد فكرة إعادة تلك الكتب للقراءة مجدداً بعد أن أستسلمت عن إكمالها نظراً لتعقيدها الشديد ، فأدوات الذكاء الاصطناعي الحالية ستوفر لي تجربة قراءة أكثر سلاسة .
كيف يمكن للمؤلفين الأكاديميين أو ذوي الطابع التحليلي أن يقدموا محتواهم بأسلوب يحافظ على عمقه العلمي وفي الوقت نفسه يكون أكثر انفتاحًا على فئات أوسع من القرّاء
أظن أن الطريقة المناسبةالتي يمكن للمؤلفين الأكاديميين والتحليليين توسيع نطاق جمهورهُم خلالها تبدأ من تبني أسلوبٍ يجمع بين العمق العلمي والوصولية. يتطلب هذا استخدام لغةٍ واضحةٍ، خالية من المصطلحات المُعقدة إلا عند الضرورة، مع توضيحها بشكلٍ مُبسط. يُمكن استخدام الأمثلة والتوضيحات العملية لإيضاح النقاط المُعقدة، وتقسيم النصوص الطويلة إلى أجزاءٍ أصغر، مع استخدام عناوين فرعية واضحة. كما يُساهم استخدام القصص، والحكايات، والاستشهادات من الحياة الواقعية في جعل المحتوى أكثر جاذبية وسهولةً في الفهم. وإضافةً إلى ذلك، يُمكن الاستعانة بالرسوم البيانية، والصور، والأفلام القصيرة لتوضيح المفاهيم المُعقدة بصريًا. أخيرًا، يُعدّ اختيار منصة النشر المناسبة عاملًا هامًا للوصول إلى جمهورٍ أوسع.
كما يُساهم استخدام القصص، والحكايات، والاستشهادات من الحياة الواقعية في جعل المحتوى أكثر جاذبية وسهولةً
أتفق معك بشدة خاصة في هذه النقطة، البشر بطبيعتهم يحبون القصص ويتعلمون منها بشكل افضل واسرع ولذلك الله عز وجل يخاطبنا في القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة في كثير جدا من آياته، برأيك كيف يمكننا استخدام هذا الأسلوب عندما نكتب كتابا علميا بدون أن نخل بالاسلوب العلمي؟
هذا ما حدث معي عندما قرأت سيرة عباس العقاد الذاتية، وجدت نفسي أمام تحدٍ لغوي وفكري غير مسبوق بسبب عمق أسلوبه وتعقيده، وبالفعل تطلب مني ترك منطقة راحتي اللغوية والتكيف مع تراكيب لغوية غير مألوفة، وقد واصلت القراءة مستعينة بالقاموس لفهم معاني الكلمات الغريبة، ومع مرور الوقت بدأت أكتشف عمق تفكير العقاد وثراء تجربته، مما جعلني أقدر الأسلوب الأدبي الرفيع الذي اتبعه، وأدركت أن تجاوز تلك التحديات كان يمنحني رؤية أوسع لعقليته الفذة ورؤيته العميقة للعالم.
هذا ما حدث معي عندما قرأت سيرة عباس العقاد الذاتية
كم كان عمرك بسمة حينما قرأتيها؟!
ومع مرور الوقت بدأت أكتشف عمق تفكير العقاد وثراء تجربته،
بالطبع، وأنا أعدً العقاد كاتبي المفضل ولا زالت عبارات بعينها من سيرته الذاتية (أنا) تعلق في ذاكرتي. أسلوب العقاد ليس معقداً كما نحسب عند النظرة العجلى ولكنه أسلوب رصين منطقي تكاد كل كلمة أن تكون في موضعها ولا تغني عنها غيرها! أذكر أني قرأتها في الثانوية العامة وتأثرت بها جداً حتى أني في اختبار التخصص سألتني دكتورة جامعية متخصصة في اللغة العربية ( لا اعلم أي قسم بالضبط) عن آخر كتاب قرأته. فقلت لها (أنا) فأحسست أنها لم تفهم للوهلة الأولى فزدت وقلت: للعقاد! العقاد أسلوبه ليس معقداً ولكن لا يصلح معه قراة كتبه ونحن على الفراش مثلاً أو نًزجي بها وقتاً للفراغ، بل كتب للتفكير الجاد الذي يثقف العقل ويفتح البصائر.
حمستموني لقراءة هذا الكتاب يا رجل اههه
قرأت للعقاد من قبل من بين ما قرأت كتاب عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من الكتب التي أحببتها بشكل خاص، لكنني لم أجد صعوبة بالغة في فهمه بل أعجبني جدا الاسلوب، فإذا كنت قد قرأت هذا الكتاب، هل كتاب "أنا" بنفس مستواه أم أنه أصعب؟
يا "أنا".. مرحبا بك في قائمة الكتب التي سأقرأها، ذكرني هذا بسؤال منتشر (لو كانت حياتك كتابا ماذا ستسميه) أظنها إجابة مثالية أنا اههه
عبقرية محمد عليه الصلاة و السلام شيقة جداً ومعظم بل كل عبقريات العقاد ليست تأريخاً لحياة هؤلاء العظماء بل رسم صورة فنية تحليلة لهم واكتشاف سر عظمتهم. يعني هو يحلل لك الشخصية من جميع جوانب عظمتها ويفسر لك سر أو مفتاح العظمة فيها. أسلوب العقاد رصين منطقي سيعجبك جداً. لا أعتقد أنها صعبة بمعنى انها معقدة ولكن تتطلب القراءة الجادة و التركيز. أما كتاب (أنا) فهو سيرة ذاتية طريفة وهو ليس صعباً او معقداً كذلك أما ما قصدته الصديقة بسمة فقد يكون كتاب آخر اسمه ( حياة قلم) سيرة ذاتية اخرى للعقاد غير أني لم أقرأ منها غير صفحات قليلة وأنوي أن أعود إليها لاحقاً.
فإن سبق وتعاملتم مع كتاب غامض أجبركم على الخروج من منطقة الراحة اللغوية والأسلوبية المتعودين عليها، وكنتم مجبرين على قرائته، كيف تصرفتم؟
نعم، حدث معنا - وليس معي وحدي في الجامعة - لما فرضت علينا - من ضمن ما فُرض- رواية قلب الظلام ( Heart of Darkness) لجوزيف كونراد. كان أسلوبه صبعاً مقتضباً مكثفاً حتى كأنك تنحت في صخر وأنت تقرأه وتفهمه! ثم إنً مراميه من وراء الرواية كانت بعيدة وهي تغوص في نفوس الرجل الأبيض و الأسود مما لم نكن نعلم عنه الكثير حينها. الغريب أن كونراد هذا كان بولندي على ما أعتقد ولم تكن الإنجليزية لغته الأولى إلا أنه فاق أهلها في إتقانها حتى أنه كتب بها ما جعلنا نرى تشارلز ديكنز وأمثاله من أهل الإنجليزية تلاميذاً لديه! المهم أننا استعنا كما قلت بشروحات كثيرة وفهمنا المغازي من ورائها و قرأنا تبسيط الرواية!
الغريب أن كونراد هذا كان بولندي على ما أعتقد ولم تكن الإنجليزية لغته الأولى إلا أنه فاق أهلها في إتقانها حتى أنه كتب بها ما جعلنا نرى تشارلز ديكنز وأمثاله من أهل الإنجليزية تلاميذاً لديه!
هل كان هذا أحد الأسباب التي جعلت كتابه أكثر صعوبة وغموضا برأيك أخي خالد؟
فمتحدث اللغة الأصلي غالبا يكون أدرى بالمفرادت البسيطة التي تخدم المعنى الذي يريده فيعطيه ميزة القدرة على مخاطبة شريحة أوسع من القراء.
قد يكون أخي رفيق وقد يكون ما تقول سبب من أسباب وعورة أسلوبه. ولكن أعتقد سبب ذلك كونه يقتصد جداً في السرد ويضع الكلمة في موضعها - مثل العقاد أيضاً ههههه - فالرواية القصيرة مكثفة مركزة العبارة الواحدة يشحنها بالمعاني الكثيرة. وربما يفعل ذلك رغبة منه في إثبات أنه يكتب بلغة غير لغته غير أمنه يبزً أهلها إتقاناً لها وتبحراً فيها!
لم يحدث معي من قبل، ولكن إذا افترضنا حدوثه فببساطة لن أقرأ الكتاب، أنا أؤمن بأن جمال الأسلوب يكمن في بساطته ووضوح معناه وإيصال ما يريد من رسائل وتعبيرات بسلاسة وسهولة بدون تعقيد أو تفلسف أو استعراض القدرات اللغوية، بالأخص وإذا كنت طالب علم أقرأ من أجل التعلم والاستفادة، وليس للمتعة والتذوق اللغوي مثلا، فإذا ما صادفت تعقيد مبالغ به سألجأ لإيجاد مصدر آخر أتعلم وأقرأ منه، لا يستاهل الأمر أو أضيع وقتي في شيء لن استفاد منه.
لا أرى ضرورة للاستمرار في شيء إذا شعرت أنني غير قادر على استيعابه أو فهمه. أحيانا يكون من الأفضل أن أترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي وأبتعد عن الضغط على نفسي. إذا لم أفهم شيئا في الكتاب، قد يكون السبب ببساطة أن الموضوع لا يتناسب مع اهتماماتي في تلك اللحظة. في هذه الحالة، أفضل أن أبحث عن محتوى آخر يتناسب أكثر مع فهمي واهتماماتي الحالية
أحيانا يكون من الأفضل أن أترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي وأبتعد عن الضغط على نفسي
نرسب في الدراسة مثلا او نفشل في المشروع أيا كان مقابل راحتنا النفسية؟ هذا المجرى الطبيعي؟
من السهل أن نتجاهل أي شيء لا يصب في اهتماماتنا أو قدراتنا الاستيعابية، لكن عندما نكون مجبرين، التجاهل والتخطي ليس خيارا متاحا، ماذا نفعل؟
صحيح كلامك يا رفيق، اتفق معك في هذه النقطه عندما يتعلق الأمر بمسؤولياتنا أو مشاريعنا المهمة، يجب أن نبذل جهدا أكبر لفهم الأمور التي قد تكون صعبة أو معقدة. فمسؤولياتنا تفرض علينا أن نواجه التحدي ونتخطى الصعاب لتحقيق النجاح والتطور. ولكن أما إذا كان الموضوع لا يخدم مصالحنا أو لا يحقق فائدة حقيقية، فلا داعي أن نضغط على أنفسنا لفهمه
التعليقات