يقسَّم التاريخ أحيانًا بحسب تطوّر الزراعة أو الصناعة، وهذا كلّه قد يسهِّل توفير الاطعمة. لكن لا تجد تقسيمًا للتاريخ بحسب الماء والمشروبات المتكونة عنه، رغم أنَّ الماء أهمُّ، ولا تستطيع التخلِّي عنه لأيّام طويلة مثل الغذاء.

كتاب "ستة أكواب تحكي تاريخ العالم" لتوم ستاندج يتحدّث عن هذا التقسيم، ويؤشِّر بعض المشروبات التي لا تروي الظمأ وحسب، وإنما لها تاريخ طويل، ويخصّ الكاتب 6 مشروبات وهي البيرة والنبيذ والروحانيات والقهوة والشاي والكوكاكولا.

في المرّة القادمة، عندما تشرب مشروبًا من هذه المشروبات -وآمل أن يكون من الثلاثة الأخيرة- فكِّر أنَّك تحتسي شيئًا ملؤه العراقة والتاريخ، كحال زيارتك لمتحف.

لم أجد الكتاب مُترجمًا، وهذا العنوان وجدتُه مقترحًا أثناء بحثي عن اسم الكتاب بالعربية، واسم الكتاب الأصلي A History of the World in 6 Glasses وهو يقع في 336 صفحة، بالمناسبة، غلاف الكتاب سيّء، لا أدري من أقنعَ الكاتب به.

البيرة في بلاد الرافدين ومصر.

تحوّل نمط الانسان القديم من الصيد إلى الزراعة قبل 12 الف سنة قبل الميلاد، وكان الشريط الذي يتمد من العراق إلى مصر خصبًا للمراعي والمزارع، ويتضمّن النيل والبحر المتوسط ونهري دجلة والفرات.

كانت بيئة تلك المنطقة مناسبة لزرع العديد من الزروع، ومنها القمح والشعير، هذه المواد كانت تمتلك أفضلية على غيرها لسهولة الخزن لأوقات طويلة، إضافة إلى انتاج البيرة منها.

البيرة كانت حاضرة بقوّة في ثقافة مصر القديمة وبلاد الرافدين، فأنكيدو في ملحمة كلكاميش يتحوَّل من شخص همجي إلى متحضِّر بعد أن يُصبح طعامه الخبز والبيرة، والعُمّال في مصر كانوا يعملون ويُدفع لهم هذا المشروب لقاء أجرهم، وهناك لوحات وروسومات جدارية تحكي قصّة اجتماعات يشربُ فيها الناس مشروبًا بقصبة، وهذه كانت البيرة البدائية إذ لم تكن مصفّاة من الشوائب، وكانت تحتاج إلى قصبات للشرب.

النبيذ في روما واليونان

قبل 6000 سنة قبل الميلاد، بدأت البشر بتصنيع الأواني الفخارية، وكانت هذه الأواني تُمكنّهم من تخزين الكثير من المواد، ومنها الفواكه مثل العنب لتخميرها، والحصول على النبيذ. بدلًا من الحبوب التي تُخمِّر البيرة، كان النبيذ يُصنع من عناقيد العنب.

أصبح النبيذ أيضًا رمزا للعلو والرفعة، ليس للشخص وحسب بل للمدينة وسياستها واقتصادها، فكان اليونايون والرومانيون يحصلون عليها من الأماكن الراقية، وكثر الحديث عنها لدى فلاسفتهم، وسُمّي مشروب الحقيقة إذ يكشف حقيقة شاربه، حتّى لقد تحدَّث عنها أفلاطون وأطراها.

بالنسبة لموضوع اختيار الأماكن التي تعكس جودة النبيذ، هذا أيضًا موجود في الشعر العربي، هاك ما يقول أميرُ كندة امرؤ القيس بن حجر واصفًا الخمر

فظللت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام
أنف كلون دم الغزال معتق ... من خمر عانة أو كروم شبام

فعانة وشبام أماكن يُستورد منها الخمر، ولقد خصّها بالذكر ملكٌ مُولع بالعُلو والرفعة.

الروحانيات عند العرب

في القرن العاشر الميلادي، زادت أهميّة التقطير في التجارب داخل المدن العربية، مثل بغداد ودمشق وقرطبة، وحينما كانت أوروبا تُعاني من التخبّطات، كان العرب يبنون علومًا بشكل منتظم.

والتقطير هو تسخين محلول إلى درجة البخار ثمّ السماح له بالتجمّع والتكثّف، وكانت استخداماته طبيّة وفي صناعة العطور، وقد جُرِّبت على الخمور، فتقطير النبيذ يُعطي بعض المشروبات الروحانية مثل البراندي والرم والويسكي. انتقلت هذه المشروبات إلى أوربا شيئًا فشيئًا، خصوصًا في المناطق التي لا يكثر فيها زراعة العنب وتخمير النبيذ.

القهوة في عصر المنطق

في القرن 17 كانت أوروبا تدخل عصر المنطق، وكلّما انغمس الناس في طقوس الكتابة والثقافة، رافق ذلك زيادة في سمعة القهوة واستهلاكها، كان مشروبًا يُبقي الناس يقظين، ويحفِز أحاديث السُمّار، والأهم ليس فيه كحول.

ارتبطت القهوة بالثقافة بشكل كبير، فكانت أماكنها تُسمّى بالجامعات الرخيصة، بمعنى الرخص الممدوح، إذ يجتمع فيها المفكّرون. وحتّى اليوم تُستعمل القهوة لتحفيز الفكر، بشكل لا يُعطِّل الحُكم والمنطق، من ميادين مقابلات العمل، إلى مواعيد الوصال والغرام.

شاي الامبراطورية وكوكا كولا أمريكا

يرتبط الشاي كثيرًا بالبريطانيين، فهم من كان لهم الدور الكبير في استيراده بداية من الصين، ثمَّ سهّلت شركاتهم الكبرى مثل شركة الهند الشرقية هذا الاستيراد وأصبح رخيصًا من خلال مستعمراتها في الهند. أظنُّ أنَّ للدحيح حلقة عن الشاي يشرح القصّة كاملة أحسن مني.

أمّا الكوكا كولا، فهي ترتبط بالثقافة الأمريكية وهيمنتها بعد الحربين العالميتين، وهي أصبحت السفير لأمريكا وثقافتها لدى العالم بعد الحرب الباردة.