نجد في النهايات لعبدالرحمن منيف حكاية قرية في الصحراء، الطيبة و أهلها، التي امتهنت الزراعة والري خلال عام قحط مرير تتعلق عيون أهلها فيه بالسماء في رجاء عله لا يخيب بنزول مطر يروي الأرض ويحييها، و لّما انتهى شباط و آذار- موسم الأمطار- يجسد لنا منيف حزن و ضيق و خيبة القرية الدافىء و حالة الثقل و الغضب المكتوم الذي يغلف الكبار والرجال والصغار و النسوة حيث يقول: " تصبح بلدة أقرب إلى السواد تُغطيها الظلمة عند الغروب و تمتد فوقها موجة من الصمت و الأحزان "

ضيق الجوع و الفقر الخناق على أهل الطيبة الطيبين حتى أوعزهم و أذلهم و أرهقهم، فكان الصَيد هو ما وجدوا فيه ضالتهم صيد الوعول البرية و الغزلان والطيور بيد أنه فيما بعد تحول إلى صيد بدافع الانتقام من شيء لا نعلمه -على حد وصف منيف- ما جعل الحيوانات تهرب إلى مسافات آمنة بعيدة. 

ثم نرى عساف الصياد غريب الأطوار متصدراً الحديث في مجالس القرية كل ليلة، فقد قاسى من الحياة ما قاساه مات والداه في صغره و لمّا عرف الحب لم يجد له مقابلاً في نفس ليلى فاعتزل الناس و عاش بصحبة كلب وفي يصحبه في عزلته و مسكنه و رحلاته لصيد الطيور قليل الكلام ماهر و نبيل، و نراه يعيش حكايات أخرى وحده، يمضي وحده، و يصمد وحده ، حيث كاد يضيع في الجبال أو يموت من البرد. 

عساف، يمثل البطولة العادية الغير مميزة أو فلنقل اللابطولة على الإطلاق كما أحب أن أسميها، عساف الذي عرك حياة البراري و الوديان و الذئاب يقول عنه منيف: "ان لهُ فلسفة خاصة تكونت مع الأيام ومن التجارب"

عساف الصياد الذي كان يصيد فقط ليساعد أهل القرية الفقراء بتخفٍ في الليل و خفة نبيلة، آمن أن الصَيد لا يكون إلا للضرورة القصوى و أن القتل يظل قتلاً مهما اختلفت أسبابه أو مسبباته ، فنراه يقول بوضوح لضيوفه اللاهين الباحثين عن الصَيد للرفاهية :  "ان الإنسان في هذه الأيام يمتلـك روح شريرة لا تمتلكها الذئاب أو أي حيوانات أخرى, ولهذا السبب نواجه اليوم الجوع, وسيكون الجوع غدا أشد وأصعب."

عساف كان دائما ما يحاول أن ينقذ الطيبة بفلسفته و أفكاره و لمّا لم تُجد وحلت أيام القحط قاسية شديدة لا فكاك منها ، انطلق ببندقيته و كلبه مع رجال الطيبة يبحثون عن ما يعيلهم وينقذهم. وخلال هذه الرحلة، يرسم لنا منيف لوحة رائعة عن امتزاج الموت بالحياة ،عن الانتظار و الخوف و الوحدة و الدهشة، عن الويلات التي عاشها عساف و رفاقه في الصحراء، هذه الصحراء التي لا مثيل لها في عنفوانها و قدرتها في تأججها و غضبها، ترى فيها ضآلة الإنسان وعدم كفاءته للمواجهة مهما ظن أنه قوي يستطيع أن يروضها.

مشهد موت عساف كان الأقسى، وجهه في الرمال ممسكاً ببندقيته و كلبه راقد يحميه من انقضاض النسور عليه، لفني ذلك بحزن عميق و ألمني أن الأبطال يموتون بطريقة أقل مما يستحقون في النهاية.

ثم تتحول الرواية إلى مجموعة قصص عن الصيد و الحيوانات - برمزية واضحة-سردتها القرية في تلك الليلة التي عاشوها عشية موت عساف ويليها جنازته التي شيعه فيها أهالي الطيبة و القرى المجاورة حيث كرموه فيها كشهيد حرب.

موت عساف كان نقطة التحول في الرواية، حيث قال المختار : "لم يقتله كلبه، نحن الذين قتلناه!" 

تأسرني مشاعر المختار، وصدقها المتجلي في صدمته و حزنه و هذيانه و إحساسه المبتور بالأبوة حينما استعاد ذكرى فقده لابنه في ظروف مشابهة لموت عساف، الألم و الصدمة يجعلاننا نرى بوضوح أحياناً ما لم نره من قبل.

ثم نرى بعدها التحول الجماعي الجذري لفكر القرية نحو تحسين الزراعة ببناء السد و المطالبة القوية به و الاستماتة لتنفيذه بدلاً من الموت و الانتظار كل عام, حيث بهرن لنا منيف على أن الأفكار العظيمة يلزمها تضحيات كبيرة كي تُرى.

منيف كاتب مذهل و متمكن من قلمه و تفاصيله و طريقة سرده لدرجة تجعلك تلتهم الرواية في نصف يوم كما فعلت، الأولى و ليست الأخيرة و متحمسة جداً لقراءه رواياته الأخرى منها مدن الملح. 

وكما بدأ حديثه أن : " حديث الصحراء ليس له نهاية، إنه مثل امتدادها و اتساعها و قسوتها و لانهايتها " فلا أظن أن هذه هي نهاية حديثي مع رواياته أو صحراءه.

شاركوني أرائكم عن رواية النهايات لعبدالرحمن منيف هل قرأتموها ؟ أنتظر تعليقاتكم و أرائكم حول الرواية و اقتراحاتكم للروايات القادمة لمناقشتها, دمتم بخير.