القصر الملعون: لعنة راجيف وطلب روح محبوسة
حتى تتابع هذه القصة وتفهمها جيداً لا بد من مراجعة الجزء الأول بعنوان: تجارب وقصص في الغربة .. والجزء الثاني بعنوان: الدخول إلى عالم الظلام: قصر راجيف الملعون ..
بعد ما حدث لنا في المرة الأولى عند دخول القصر المهجور، كنت أنا و"رام" نعتقد أن الأمور قد انتهت. الهروب من ذلك المكان كان معجزة بحد ذاته، وشعرنا بأننا نجونا من شيء لا يمكن للعقل تصديقه. ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد. بعد أيام قليلة من تلك الليلة المشؤومة، لاحظت على رام الشرود على غير عادته, فقد أعتدت أن يقابلني هاشاً باشاً وأحياناً يشتمني بلغة أهل ولاية "مهراشترا" "المهراتي" لأن أول ما تعلمته من هذه اللغة كانت الشتائم .. ومن الطرائف أن كل من أشتمه بالمهراتي كان يموت من الضحك تماماً كالطفل الذي يتلفظ بكلمة بذيئة سمعها من أحدهم ويرددها أمام الأسرة والضيوف فلا يملك الجميع سوى الضحك ..
هذه المرة أجلسته وقلت له معاتباً:
هناك شئ يشغلك وأنت لا تريد أن تشركني .. ما هو؟ اريد أن أعرف ماذا يجرى .. فقال لي أن روح السيدة التى كانت صورتها معقلة على جدار القصر تريدك أن تنقذ روحها .. قلت مندهشاً: أنا ؟؟ انقذ روح من؟ .. أتعني انك تريدنا أن نعود للقصر الملعون مرة أخرى؟ .. أكيد أنت تمزح .. اليس كذلك؟ ..
هز رام رأسه نافياً .. فانتفضت فيه غاضباً:
إذا كنت تريد أن تتخلص مني فأنا سارحل من هذه المدينة بكل بساطة .. ولا داعي أن تتخلص مني بهذا الشكل.. ضحك رام لأول مرة وقال متفهماً: ولماذا أتخلص منك؟ هل سأرثك مثلاً؟ ثم إنك لا تملك شئ أرثه أصلاً .. ثم أردف جاداَ هذه المرة: المرأة التى كانت صورتها معلقة على الجدار .. قاطعته: أي امراة ؟ أنا لم أرى اي صورة ..
وبدأ يسرد لي الحكاية:
منذ هروبنا من القصر تلك الليلة بدأت الأحلام المزعجة تلاحق صديقي "رام".
كان يرى نفس المرأة التي وجدنا صورتها على أحد الجدران المتهالكة في القصر ..
كانت تظهر له في المنام بشكل متكرر، وهي تتوسل إليه طلبًا للمساعدة. في البداية، كانت تبكي وتطلب منه بلهجة يائسة أن ينقذها من شيء لم يكن واضحًا. ومع مرور الوقت، تحولت هذه المرأة من مجرد توسل إلى تهديدات صريحة. كان الأمر كما لو أن روحها محبوسة في مكان ما ولا تستطيع الفرار، وكانت غاضبة لأنه لم يساعدها بعد.
"أنا أراها كل ليلة... إنها تأتي إليّ وتطلب مساعدتي... أحيانًا تتوسل، أحيانًا تهددني... أشعر بأنني لا أستطيع الهروب منها. إنها محبوسة في لعنة ما بسبب السحر الأسود الذي مارسه راجيف القاتل. تريدنا أن نعود إلى القصر ونحرر روحها."
أحسست بالخوف يتسلل إلى داخلي عندما قال ذلك. كان من الصعب علي أن أصدق أن شيئًا كهذا يمكن أن يكون حقيقيًا. روح محبوسة؟ سحر أسود؟ كل شيء بدا وكأنه مأخوذ من كابوس، ولكنه كان حقيقيًا جدًا لـ "رام".
كنت مترددًا ..
فكرة العودة إلى ذلك المكان المخيف جعلت دمي يتجمد في عروقي. ولكن "رام" كان مصممًا، وكان يشعر بأن الأمر يتطلب منا القيام بشيء. قال لي وهو ينظر إليّ بنظرات ملؤها اليأس. "إنها روح مسكينة، يجب أن نساعدها،"
ولكن ألم تقل لك المرأة كيف سأساعدها أنا؟ ولماذا أنا بالذات؟ ..
أجاب رام بالنفي أي انها لم تقل لماذا اختارتني ولكنه أكد أن هوسي بالقصر من البداية لم يكن صدفة على ما يبدو .. ما فهمته أنها تريدك أن تقرأ على راجيف آيات محددة من القرآن حتى تتحرر روحها .. فنظرت له بدهشة وعدم تصديق .. هل أنت جاد في ما تقول؟ قلت بإنفعال .. هل أبدو لك كشيخ أو رجل دين؟ .. فرد بمنطق غريب لم أستوعبه في البداية: المسألة أعتقد ليست في المظاهر .. يعني انت لا تبدو كشيخ أو رجل دين بالشكل المتعارف عليه أو المألوف .. ولكن هذه روح, يعني بالتأكيد ترى ما لا نراه وتعرف ما لا نعرفه .. ربما رأت فيك المؤهلات أو الملكات المطلوبة لتحريرها ..
ولكن لماذا القرآن؟ هل هي مسلمة؟ ..
نعم كانت مسلمة فهي زوجة جاره التى خلبت لبه وصار مهوساً بحبها .. أتذكر؟ .. هززت رأسي وقلت: يعني أنت تتكلم بجدبة وهذه ليست مزحة أو مقلب ما؟ ..
في النهاية، ما كان لي أن أتركه يذهب وحده. كان يجب أن أكون بجانبه، ليس فقط لأنه صديقي، ولكن أيضًا لأنني شعرت بأنني مسؤول جزئيًا عما يحدث له. وافقت على الذهاب معه، وقررنا أن نعود إلى القصر في نفس الوقت الذي دخلناه فيه من قبل، حينما كان الظلام يغطي المكان.
العودة إلى القصر: رعب غير متوقع
في تلك الليلة المظلمة، عدنا إلى القصر الملعون. الطريق إلى هناك بدا أكثر ظلامًا ورعبًا مما كان عليه في المرة الأولى. كان المكان يحيط به الصمت القاتل، وكأن الطبيعة نفسها تتجنب الاقتراب منه. شعرت بالقشعريرة تسرى في جسدي بمجرد أن رأينا بوابة القصر الضخمة المتهالكة تظهر أمامنا من خلال الضباب الكثيف.
لكن بمجرد اقترابنا من القصر، شعرنا بشيء غريب. لم يكن مجرد خوف عادي. كان هناك إحساس قوي بأننا مراقَبون. وكأن القصر نفسه يحدق بنا وينتظر اقترابنا. تحولت الرهبة إلى توتر مكثف حينما وصلنا إلى البوابة الرئيسية ووجدناها مفتوحة قليلاً، رغم أنها كانت مقفلة بإحكام في المرة السابقة.
عندما دخلنا، كل شيء بدا كما كان من قبل. الجدران المتشققة، الأرضيات المليئة بالأتربة، الهواء الثقيل الذي يحمل معه رائحة العفن والخوف. ولكن كان هناك شيء آخر... شيء لم نكن نلاحظه في البداية.
المفاجأة المروعة: عودة راجيف
بينما كنا نتجول في الغرف الفارغة بحثًا عن أي علامة تدل على الروح المحبوسة، توقف "رام" فجأة. وجهه تحول إلى اللون الأبيض، وعيناه اتسعتا بالرعب. استدار نحوي وأشار بصمت إلى زاوية مظلمة في إحدى الغرف.
عندما اقتربنا منها، كاد قلبي أن يتوقف. هناك، في تلك الزاوية المعتمة، كان هناك جثمان ملقى على الأرض. كان راجيف، الشخص الذي قيل إنه فقد عقله بعد استخدامه للسحر الأسود. لم يكن هذا الأمر مفاجئًا فقط، بل كان مريعًا بشكل لا يمكن وصفه. وجهه كان ملتويًا بتعبير يجمع بين الألم والجنون، وكأن شبحًا كان يطارده حتى اللحظة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة.
ولكن الشيء الأكثر رعبًا كان أن جثة راجيف لم تكن طبيعية ..
كانت تبدو وكأنها محنطة بطريقة غير طبيعية، رغم أنه لم يكن قد مر وقت طويل على وفاته. جسده كان مغطى برموز غريبة محفورة على جلده، والهواء حوله كان يحمل رائحة الموت المخلوطة بشيء آخر... شيء لا يمكن تفسيره.
حينما نظرنا إلى هذا المشهد المخيف، فهمنا أن راجيف لم يمت بطريقة طبيعية. بل كان موتًا ناتجًا عن السحر الذي استخدمه. تلك الرموز كانت جزءًا من الطقوس التي مارسها، وها هي قد انعكست عليه وجعلته يلقى هذا المصير الفظيع.
بينما كنا نحاول استيعاب ما نراه،
بدأنا نشعر بأننا لسنا وحدنا في القصر. الهواء أصبح أثقل، والظلام حولنا بدأ يتحرك وكأن هناك كائنات خفية تراقبنا من كل زاوية. فجأة، سمعنا صوت خطوات تتقدم نحونا من خارج الغرفة. التفتنا بسرعة، لكننا لم نرَ أحدًا.
حاولت أن أقرأ آيات من القرآن أو الأذكار ولكن ما جعلني أصاب بالذعر أن ذهني صار مجمداً لم أعد أذكر أي شئ ولو آية من القرآن .. وما زاد زعري وإضطرابي ظهور شبح المرأة المفاجئ .. فظل رام يحثني على التلاوة بنفاذ صبر ويلح بشدة .. كنت مجمد الذهن والبدن تماماً ..
ولكن بدون أي مقدمات شعرت بنسمة باردة منعشة وحلوة بين ضلوعي وإعترت لساني نشوة غريبة كأنه يتذوق عسل غامض سرت حلاوته بين أعصابه وخلاياه .. ثم شعرت وكأنني صرت أداة لكائن خرافي يتلو بها آيات بينات من كتاب الله .. كان الصوت عذباً رخيماً يهز الكيان .. كنت كعود الناي خاوي تماماً من الداخل كما يجب والكائن يعزف من خلالي وأنا غير مدرك لما يقول .. أي انشودة سماوية تلك لا أدري ولكن النشوة في لساني انستني من أكون ومن أنا وأين كنت ..
لم أفق من حالتي تلك إلا ورام يعانقني فرحاً ويقفز هاتفاً: لقد نجحت .. لقد نجحت .. في البداية لم أستوعب فيما نجحت ولكن عندما بدأ الضباب ينقشع من أمام ناظري تدريجياً .. رأيت نفس المرأة ولكن حولها هالة بيضاء وبريق أخاذ تبتسم إبتسامة عذبة وهي تحلق نحو الفضاء .. نظرت حولي وجدت البهو صار طبيعياً .. تلك الهالة الغليظة من الخوف والزعر إختفت والأجواء طبيعية تماماً .. جثة راجيف أيضا لا توجد في المكان الذي رأيناه .. إختفت وأظن للأبد مع لعنة بغيضة وجريمة لا تغتفر ..
ونحن نغادر القصر سألت رام هل سمعتني أتلو شيئاً ..
رد في انفعال ظاهر وحماس عجيب: سمعتك؟ بل نظراتك المخيفة تجاه راجيف جعلتني أعتقد أنك "سوبرمان" لقد كان مخيفاً يزمجر كالرعد يرمقك بنظرات الكراهية والحقد ويمطرك بلسانه العفن بشتى الوان التهديد والوعيد .. ولكن أذهلتني يا صديقي حينما بدأت تتلو تلك الكلمات بدأ راجيف يتلوى من الألم ويتقهقر حتى تلاشى تماماً .. فسالته بدهشة: هل كان راجيف هناك فعلاً وأنا فعلت ما تقول؟ .. اقسم لي رام أن ذلك ما حدث .. وكم تمنيت لو كانت هناك كاميرا صورت تلك المشاهد ..
ولكن لن أنسى النسمة الباردة الحلوة بين ضلوعي واللذة الحالمة في لساني ما حييت ..
في تلك اللحظة، شعرنا وكأننا خرجنا من كابوس مرعب ولا في الأحلام. لم نلتفت وراءنا، ولم نتوقف حتى ابتعدنا عن القصر بما يكفي. وبعد تلك الليلة، لم يعد "رام" يرى تلك الأحلام، لكننا علمنا جيدًا أننا قد نجونا بأعجوبة من شيء أسوأ مما كنا نتخيله.
كان هذا الجزء الأخير من قصة "القصر الملعون: لعنة راجيف وطلب روح محبوسة" بجزئيه الأول "تجارب وقصص في الغربة" والثاني "الدخول إلى عالم الظلام: قصر راجيف الملعون".
التعليقات