الفصل الأول:
في مدينة قِنَـا جنوب مصر، الساعة الثامنة مساءً، كان الدكتور سامي يجلس في غرفته التي امتلأت بالكتب والخرائط القديمة؛ أعدَّ كوبًا من القهوة، ثم جلس إلى مكتبه وارتدى نظارته المستديرة، بدأ يُمعن النظر في كتاب قديم يرجع إلى إحدى الأُسـر الفرعونيـة.
كان يتردد على نافذةِ غرفته باستمرار، ينظر خارجها كأنه يراقب شيئًا بالخارج، كان البيت وسط أرضٍ زراعية غمرتها مياه الأمطار الغزيرة، مع رعد وبرق.
ترك مكتبه وجلس بجوار النافذة على مقعدٍ يراقب الطريق، وكان ينظر إلى ضوء القمر.
دكتور سامي عالمُ آثارٍ مصري، درس علم المصريات في مدرسة "الآثار التاريخية المصرية" أواخر القرن الثامن عشر؛ كان شغوفًا بالبحث والتنقيب عن آثار مصر القديمة، وكَشْفِ أسـرارها وغموضها.
بعد قليل، طرق باب الغرفة؛ فنهض مسرعًا إلى الباب وفتح؛ فإذا بـ(مراد) قد وصل، وهو أحد طلابه.
مراد: السلام عليكم دكتور سامي.
= الدكتور: وعليكم السلام يا مراد، كيف حالك؟
- الحمد لله بخير.
= لماذا تأخرت؟! لقد خشيتُ ألَّا تأتي.
- أخرني الـمطر؛ لقد أغرق الـمدينة بأكملها.
دخلا إلى غرفة الـمكتب، وجلسا قرب النافذة يتحدثان.
كان الدكتور سامي قد عثر على كتاب قديم في إحدى المقابر الفرعونية بوادي الملوك، ووجد فيه شيئًا جذب اهتمامه؛ فاستدعى تلميذه مراد لمشاورته.
= الدكتور سامي: هل سمعت عن قصة مدينة (حُورَاسِيتْ) التي يتداولها الناس منذ القِدم يا مراد؟
- نعم.
= هل تعتقد أنها حقيقية؟ أم مجرد قصة خيالية؟
- أعتقد أنها خيالية؛ فلا دليل على وجود هذه المدينة، كما أن الأحداث التي وقعت فيها لا تُصدق.
= لكني أعتقد أنها حقيقية، وما حدث لسكانها ربما يكون حقيقيًّا أيضًا.
مراد متعجبًا: كيف يا دكتور؟!
= بين يدي كتابٌ قديمٌ يتحدث عن وجود مدينة تحمل مواصفات مدينة (حُورَاسِيتْ)، وقد وجدتُّ خريطة مطوية بين صفحاته، فيها مخطط للمدينة غرب نهر النيل.
- هل ذكر الكتابُ الأحداثَ التي وقعت للسكان؟
= لا، لكنه وصفها من ناحية البناء والمحتويات.
مراد: لعلها مدينة أخرى يا دكتور.
= لا، أعتقد أنها هي؛ فقد ذكر الكتاب أن هناك مسلة ذهبية تتوسط المدينة، وهذا ما يتفق مع رسم الخريطة، وأرى أن هذه المسلة تميز المدينة عن غيرها من المدن. ثم قال:
وهناك بردية قديمة أشارت إلى وجود معبد كبير لأنوبيس غرب النيل، لكن لم تحدد مكانه.
- ولماذا تعتقد أنه لأنوبيس تحديدًا، وما شأنه بالمدينة؟!
= لأن ما حدث لسكان هذه المدينة يرجع إلى قوى شريرة لأنوبيس، خرجت من معبدٍ بجانبهم.
- قد يكون المعبد لملكٍ أو إلـهٍ غير أنوبيس؛ خصوصًا وأن أنوبيس لا يُعرف له معبدٌ يخصه في الحضارة المصريـة!
= أعرف ذلك؛ لكن إذا كانت المدينة الـمذكورة في الكتاب هي مدينة (حُورَاسِيتْ) فعلًا؛ فالـمعبد المذكور في البردية سيكون لأنوبيس بلا شك.
فكر مراد قليلًا في تاريخ أنوبيس وعلاقته بما حدث في قصة المدينة؛ فأنوبيس هـو إلـه الـموتى عند الفراعنة، وحامي الجبانة، ومراقب عملية التحنيط؛ لقد لعب أدوارًا عديـدة في الديانة المصريـة القديمة.
مراد: هل تخطط للبحث عن المدينة؟
= نعم، وأريد الوصول إلى المعبد أيضًا.
- ومن أين ستكون نقطة البداية للبحث عن المدينة؟! الصحراء واسعة جدًا، والأمر يحتاج إلى معلومات أكيدة، وليس مجرد تخمينات.
= تبسم الدكتور قائلًا: لا تقلق يا مراد، ثم خرج من غرفة المكتب ليجهز كوبين من القهوة، وبقي مراد وحده.
شَعَر مراد أن الدكتور سامي يعرف المزيد عن هذه المدينة؛ فهل وجد طريقًا إليها؟! إنه يتحدث عنها كأنه وجدها بالفعل.
نظر مراد إلى مكتب الدكتور سامي الذي تكدس بالكتب والخرائط. فكر قليلًا، ثم قام وتوجه إليه، وفتح الكتاب الذي عثر عليه الدكتور.
كان الكتاب غريبًا في صُنعه، وكان مرصعًا بالذهب والنقوش الملونة؛ إنه كتابٌ ثمينٌ للغاية، لـم يـر مثلـه من قبـل.
وبصفته متخصص في قراءة النقوش واللغات القديمة، وبالأخص الهيروغليفيـة؛ بـدأ يقلب في صفحات الكتاب، ويقرأ بعض الأجزاء لعله يفهم شيئًا، لكن محاولته السريعة باءت بالفشل؛ فالأمر ليس هينًا، والعثور على شيء ثمين ليس بهذه السهولة والسرعة.
لاحظ مراد نقشًا يصور أنوبيس جالسًا بين ذراعي أبي الهول، ومكتوب بجانب هذا النقش عبارة قصيرة بالهيروغليفية.
وقبل أن يبدأ في قراءتها؛ دخل عليه الدكتور سامي ومعه القهوة، ورآه وهو يقرأ في الكتاب فابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال:
هل لاحظت شيئًا في الكتاب يا مراد؟
- نعم، أنوبيس لا يجلس بين ذراعي أبي الهول في الحقيقة؛ فعلى أي شيء يدل هذا النقش؟!
= ربما تعرف إذا نظرتَ في الخريطة.
ترك مراد الكتاب وأمسك بالخريطة؛ فوجد نفس النقش مرسومًا غرب النيل في شمال الصحراء الغربية، وبجانبه مخطط لمدينة كبيرة تتوسطها مسلة.
= هل تعتقد يا مراد أن وجود هذا النقش بجانب المدينة؛ قد يشير إلى شيء يخصها، أو يخص معبد أنوبيس؟
- مراد وهو يحتسي القهوة: نعم، يبدو الأمر ذلك.
= الدكتور: أريدك أن تعود إلى منزلك، وتجهز نفسك للسفر معي غدًا؟
- مراد: إلى أين؟
= سنعود إلى القاهرة.
- لماذا؟!
= سوف نقوم بمغامرة استكشافية كبيرة.
فرح مراد بما سمع؛ فقد كان يحلم بفرصة كهذه؛ إنه شاب في منتصف العشرينات من عمره، شغوف بالبحث عن الآثار القديمة، ويعشق التاريخ المصري القديم. كان يرافق الدكتور سامي في معظم سفرياته؛ ليتعلم منه المزيـد.
انصرف مراد وهو سعيد جدًا، ونسي أن يقرأ العبارة التي وجدها في الكتاب بجانب نقش أبي الهول.