معظم الذين يتحدثون عن أنفسهم أو يكتبون يحرصون على إبراز النقاط المضيئة المشعَّة في محطاتهم الحياتية بغاية التباهي والتفاخر، لا بقصد تقديم عِبرة أو خِبرة، وما دروا أن تصوير حقيقتهم عاريةً أجمل بكثير من تلك الصورة المنمَّقة التي يرهقون أنفسهم في تجميلها، فهكذا خلق الله تعالى الإنسان يخطئ ويصيب، ومن يدعي المثالية، ويتحرَّج من البوح والتصريح بزلَّاته، يكن إنسانًا مدَّعيًا يفتقر الثقة بالنفس.

بالنسبة إلي، كنت طفلًا عاديًا، لا أحد يأبه لأمري! نشأت في قرية صغيرة، لم أكن حينها أتحلّى بالوعي الكافي للتفكير في مستقبلي، بل كان أكبر همي اللعب وتمضية الوقت مع أطفال الحي المشاكسين، وربما آذينا بعض المارة من باب المرح وشقاوة الطفولة، وربما اعتدينا على بعض الممتلكات الخاصة أو العامة؛ للتفاخر بمغامرات صبيانية نتكلم بها لاحقًا كنوع من التعبير عن وجودنا مثل الدخول في تحدي مع صبية الحي في من يستطيع أولًا كسر أحد المصابيح التي تنير الشارع العام، أو إصابة أحد المصابيح المركبة على باب أحد الجيران رشقًا بالحجارة، أو دق جرس الباب ثم الهرب... شقاوات الطفولة المبكرة كثيرة، عفوية وبريئة، لم تكن بقصد الإيذاء، بل بغاية التعبير عن الذات، أو نوع من اللهو والمشاكسة التي نعبر من خلالها عن وجودنا، دون أن نعي مقدار إساءتها للآخرين.

كنا نخوض تلك المغامرات الصبيانية بوصفها نوعًا من التفريغ النفسي عن طاقات الطفولة، فنبتكر بعض الألعاب ذات الخطورة؛ كي نعيش رهبة المغامرة ولذة المخاطرة، فنرضي فينا حاجتنا النفسية إلى الشعور بامتلاك الجرأة والشجاعة.

من ذلك أننا كنَّا نتعربش (نتسلَّق) على مواسير الماء المثبتة على الجدران الخارجية وصولًا إلى أعلى السطح، أو نتلسق تلة شاهقة ذات انحدار شبه عمودي بأرضية زلقة مغطاة بالحصى، أو ننزل في الوادي المجاور للقرية لتغمرنا المياه إلى قرابة أنوفنا، مع احتمالية التعرض للغرق بخطوة في حفرة لم ننتبه لوجودها أسفل أقدامنا، ونحن لا نعرف السباحة، ولكنها روح المغامرة، أو نتحرجم (نجتمع) لقتل أفعى برية سامة رشقًا بالحجارة، عدا عن هواية جمع العقارب التي تعشش أسفل الحجارة الكبيرة، عقارب بألوان غريبة خضراء، وحمراء، وصفراء، وسوداء، نرفع عنها الحجارة، ثم بحذر نضعها في قارورة، كي نتفاخر بجمعها، أو نتسلق الأشجار العالية وصولًا إلى أعشاش الطيور؛ كي نلتقط الزغاليل الصغيرة ونذبحها ونشويها! أو نمتطي الحُمُر ويا لكثرتها في القرية، أو نصطاد الفراش المنتشر في موسم الربيع. كنا نرشق بالحجارة كل ما يتحرك من كائنات حية كالقطط والطيور بأنواعها... وقد ننصب الشراك للإيقاع بالطيور، بأن نضع صمغ الفئران على عود نثبته على شجرة، ونضع عليه بعض الحبوب، فعندما يراها الطائر، ويحط على العود لأكلها، تلتصق قدماه.

لا أحد منزَّه ومعصوم عن ارتكاب الحماقات في طفولته، لكن كثيرين يتحرجون من الحديث عن هفواتهم وسقطاتهم؛ ظنًّا منهم أن فيها ما يفضحهم ويُدينهم ويسيء إليهم، وما دروا أن هذه المواقف ليست وقفًا عليهم وحدهم، بل هي جمعية لا تخلو حياة إنسان منها، أقدم عليها حينها مدفوعًا بغريزة الطفولة.

من تلك الحماقات تحضرني قصة طريفة ما تزال ماثلة في ذاكرتي إلى اليوم بتفاصيلها، كانت سطو طفولي على مزرعة عنب، عندما دخل أخي خلف الناطور الذي كان يرش عرائش العنب بالمبيدات الحشرية، ولم يكن على مسافة بعيدة منا، ولكن أخي راهن على سرعته، وأن الناطور لن ينتبه إليه، إذ كان منشغلًا في الجهة الأخرى. لم يقتنع أخي إلا بأكبر عنقود وقعت عليه عيناه، مما تطلب منه التعلق به بكل وزنه الصغير؛ كي يستطيع قطعه من الغصن، فلما تمكن من انتزاعه، اهتز الشبك بقوة وأصدر صوتًا عاليًا أفزع الناطور الذي تنبه إلى وجودنا، فالتفت إلينا من فوره، ورمى علبة المبيدات من على كتفه، وركض بأقصى سرعته، خفنا وهربنا ولم يعد يهمنا العنب، بل الإفلات من قبضة الناطور، لكن أخي بقي محتضنًا العنقود كما لو كان أمًّا تحتضن طفلها الرضيع ويعزُّ عليها إفلاته، فصرنا نركض خلف أخي، ونتوسله أن يرمي العنقود حتى يكف الرجل عن ملاحقتنا، لكنه أصر على التمسك به، إلى أن يأس الناطور من الإمساك بنا، إذ كان لحسن حظنا شيخًا كبيرًا لا يقوى على الركض لمسافة طويلة.

يمكن للأطفال التعبير عن وجودهم دون المخاطرة أو الإساءة إلى المجتمع، ولكني أعرض مثل هذه المواقف؛ كي أبين دوافعها التي كان أبرزها الفراغ الكبير لدينا في تلك المرحلة المبكرة من عمرنا، فلا شيء يلهينا ويسلينا في فترات العطل المدرسية التي تتجاوز أربعة شهور في السنة، كما أننا كنا نعاني من هذا الفراغ أيضًا بعد العودة من المدرسة في المرحلة الابتدائية.

لم يكن لدينا من نشاطات موجهة ومفيدة تشغلنا، فكنا نبتدع نشاطاتنا بأنفسنا، وذات يوم اتفقنا على أن نتسلل إلى حقل مزروع بشتى أنواع الخيار والقثاء والبطيخ بنوعيه الأصفر والأحمر؛ كي نقطف بعضها ونأكل، لكننا فوجئنا بأحدهم ينقض علينا فجأة ويمسك منا اثنين، في حين هربت أنا وأخي الأكبر، وفيما كنا نمشي عائدين إلى القرية فوجئنا بأحدهم يقود دراجة خلفنا ومعه شخص آخر، واستطاعوا الإمساك بنا واقتيادنا إلى الخيمة حيث وجدنا أخي الآخر وابن عمي هناك قد رُبطوا تحت حر الشمس بجوار الخيمة، لكن أصحاب المزرعة حنُّوا علي وأدخلوني الخيمة، وأشركوني معهم في لعبة الورق، ولم أكن قد بلغت حينها الخامسة من العمر حسبما أذكر في حين كان أخي الكبير في العاشرة تقريبًا، لم تمض ساعة حتى جاءنا جارٌ لنا، وبَّخنا كثيرًا على فعلتنا، وتوسَّط لإطلاق سراحنا، وهكذا عدنا بعدما تعلمنا درسًا أخلاقيًا قاسيًا.

لقد شاءتِ العناية الإلهية أن يتغير سلوكي وتفكيري، بأن أستأنف دراستي بعد انقطاع استمر لسنتين، وأن أدخل الجامعة وأتابع فيها إلى أن حصلت على درجة الدكتوراه بتقدير امتياز، لأعمل مدرِّسًا جامعيًا منذ حوالي العشر سنوات، وأنا على يقين أن كل إنسان لديه تجربته الخاصة، وإن لم تحدث بعد عند بعضهم، فإن الوقت لم ينفد بعد؛ فهم قادرون على إحداثها، مهما كان ماضيهم محرجًا ومخزيًا، وهذه تحديدًا الرسالة التي قصدت إيصالها من سرد بعض قصص الطفولة بتفاصيلها الحميمة. فسلوك الأطفال في المرحلة المبكرة ليس مقياسًا لمدى نجاحهم أو فشلهم في المستقبل، والغالب أن تفكيرهم ينضج ويتغير.

فالسؤال الآن: هل سبق لأحدكم أن تمرد على واقع كان يرفضه، لإحداث نقلة نوعية في حياته؟