ذهبتُ إلى أحد الأصدقاء معزومًا على الإفطار، وكان قد عاد من اليمن بعد غياب دام ثمانية أشهر.
أصرَّ على أنني لن أفطر إلا عنده، وبعد الإفطار، ذهبنا لصلاة المغرب، ثم عدنا لتناول وجبة العشاء معًا.
تبادلنا الأحاديث عن أجواء اليمن ومحاولاتي لفهم التغيرات التي طرأت هناك، بعد ذلك، أخذنا إلى المقهى الخاص به، والذي يقع تحت العمارة التي يسكن بها.
نادى النادل لإحضار الشاي والقهوة، ثم طلب منه قائلًا: صلح لي رأس شيشة على السريع، لم أعد أتحمل الشوق إليها.
وافق النادل، وجلب لنا الشاي، وله الشيشة، وبدأت رائحة الشاي والقهوة تختلط بنكهة المعسل الذي حضّره.
لم نأبه لذلك، حيث كان الموضوع بالنسبة لنا حرية شخصية، ولم نسمع من أي شخص توبيخًا بهذا الشأن، لأننا كنا معزومين، ومن غير اللائق تقديم النصائح في هذه الحالة.
كان الجو مليئًا بالضحكات المتعالية وسط سحب الدخان المتصاعد، بدونا في عالمٍ منفصلٍ، لا صلة له بالواقع.
أمسك صديقي خرطوم الشيشة وأخذ نفسًا عميقًا، ثم زفره ببطء، يراقب الدخان وهو يتلاشى في الهواء، ويختفي بلا أثر، تمامًا كما يظن أن هذه العادة لن تترك أثرًا عليه، مدَّ صديقي الخرطوم إلى الأصدقاء واحدًا تلو الآخر، منهم من أخذها، ومنهم من رفض.
في تلك اللحظة، أتى شخصٌ آخر وطلب شايًا، ثم جلس على الطاولة المجاورة.
كان رجلٌ مسنًّا، عيناه مثقلتان بحكايات الزمن، يرمق صديقي بنظرةٍ طويلة، كأنما يرى في وجهه انعكاسًا لشبابه الضائع وهو يشرب الشيشة بشراسة.
للحظة، بدت نظراته تعاتب أكثر مما تراقب. رفع يده ببطء، كأنه على وشك الحديث، ثم أسقطها في حجره.
مع كل شهيق وزفير لصديقي، كان صدره يعلو وينخفض، كأنه يحاول ضبط إيقاع أفكاره، بينما تاهت عيناه بين الطاولة والأرض.
ثم، كما لو أن قرارًا قد نضج داخله، نهض بتثاقل وسار بخطوات هادئة نحو طاولتنا.
قال بصوت دافئ، يحمل شيئًا من الحزن:
السلام عليكم.
رددنا السلام ورحبنا به، ثم قال لصديقي.: هل تسمح لي بكلمة، يا بني؟
إلتفت صديقي إلى الرجل، شعر بدهشة ممزوجة باستغراب، لكنه أومأ برأسه موافقًا.
جلس الرجل، سحب أنفاسه كما لو كان يجمع شتات ذاكرةٍ ثقيلة، ثم قال: قبل سنوات، كنتُ أجلس هنا، على هذه الطاولة تحديدًا، مع أصدقائي، نضحك كما تفعلون الآن، نمزح ونستنشق الدخان دون اكتراث.
لم أكن أرى ضرره، كنتُ أظنها مجردَ متعةٍ عابرة، مثل رشفةِ قهوة في الصباح. التحذيرات كانت تصلني من كل حدب وصوب، سمعتها كثيرًا، لكنها كانت تدخل من أذن وتخرج من الأخرى. كنتُ أعتقد أنني محصَّن، وأن المرض لا يعرف طريقه إليّ.
توقف لبرهة، رفع كم قميصه ليكشف عن أنبوبٍ صغيرٍ مثبت في ذراعه، ثم أضاف بصوتٍ يملؤه الندم: تعبتُ كثيرًا، حتى بقيتُ طريحَ فراشي لمدة ثلاث سنوات.
لم أستطع أن أجد الراحة، وعشتُ أيامًا لا تطاق جربتُ كل شيء، زرتُ كل المستشفيات، لكن لا شيء أتى بثماره.
أصبحت مستعدًا لدفع كل ما أملك من أجل استعادة صحتي، وكل شيء كان يفشل.
أحيانًا كنتُ أقول في نفسي: ليتني أعود إلى الوراء، ليتني لم أسمح لهذه العادة أن تسيطر على حياتي، لكن الآن، لا أستطيع أن أستعيد ما ضاع.
نظر بعينيه المرهقتين إلينا، ونبرة صوته أصبحت أخفّ، تكاد تحمل معه كل الحزن والندم الذي يشعر به: الآن، أنفاسي تُحسَب، كل خطوة باتت معركة، والسعال أصبح رفيقي الدائم، لا أستطيع أن أضحك كما كنتُ، لا أستطيع حتى أن أتنفس بشكلٍ طبيعي.
الحياة أصبحت ثقيلة، وكل نفس أخذته كان بثمن، والآن أبحث عن شهيق لا يقطعه الألم، لكن لم أستطع أن أجد الراحة.
ثم نظر إلى صديقي بنظرةٍ مليئةٍ بالأسى، وقال بصوتٍ محزون: يا بني، هذا الدخان الذي تراه يتلاشى في الهواء، لا يختفي هو يدخل في رئتيك، يعشش في أعماقك ويُراكم ضرره يومًا بعد يوم، حتى تستيقظ ذات صباح، فتجد نفسك تلهث لمجرد صعود سُلّمٍ صغير، حينها ستدرك الحقيقة، ولكن ربما بعد فوات الأوان.
ثم أضاف الرجل، كما لو كان يقرأ في قلب صديقي، مستدركًا: يا بني، حتى الشيشة الإلكترونية، لا تظن أنها أقل خطرًا كما يظن البعض.
وإذا كنت تظن أن الشيشة الإلكترونية أقل ضررًا، فدعني أخبرك أنها قد تكون القشة التي تقصم ظهر البعير.
قد تبدو ربما أقل ضررًا، لكن تأثيرها أكثر تعقيدًا وأشد فتكًا.
المواد التي تنبعث منها قد تكون أخطر مما تتخيل، وتسبب تلفًا غير مرئيًا لرئتيك، حتى وإن كانت الروائح أجمل وأقل كثافة.
هناك من يظن أنها وسيلة آمنة، لكن الحقيقة أنها قد تكون أكثر خيانة لصحتك، لأن ضررها يتراكم تدريجيًا ولا تشعر به.
تابع حديثه بصوتٍ متألم، وقد اتسعت عيناه بحزنٍ عميقٍ للألم الذي حمله على مدار سنوات قد ترك أثره على كل كلمة قالها: هل فكرت يومًا في أسرتك؟ في أطفالك إن كنت متزوجًا؟ هل ستُرضيهم إذا رأوا والدهم يتألم ويتكبد معاناتي؟ هل يرضيك حزن والدك وبكاء أمك عندما يرون صحتك تتدهور لمجرد هذه العادة؟
لا يمكن لأحد أن يشعر بمقدار الألم الذي تسببه هذه العادات إلا عندما يشعر به في جسده.
لكنك الآن لا تشعر بنفسك، لكنك ستشعر به لاحقًا، لأنك الآن تسعى وراء شعورٍ زائل، لحظة استمتاع خاطفة، لم تكن لتتخيل يومًا أنها ستدفعك لهذا الثمن الباهظ.
ستشعر حين تجد نفسك عائدًا إلى منزلك على كرسي متحرك، عاجزًا عن حمل أبنائك، عاجزًا عن إضحاكهم أو حتى احتضانهم.
في هذا الوقت لن تستطيع أن تعود بالزمن، ولن تعود قادرًا على استعادة ما أضعته من صحتك.
نزلت دمعة من عينيه وهو يقول بحزنٍ: لا تهدر صحتك لمجرد أنك تستمتع، فالحياة لا تقدر بثمن، وصحتك هي أغلى ما تملك.
لم أكن أعرف، ولكن الآن، وبعد كل هذا الألم، أدركت أن لا شيء يستحق هذا الثمن، لا تجعل شيئًا عابرًا يدمرك، لأنك لا تعرف ماذا ستفقد حتى تفقده.
ساد الصمت للحظات، ثم نهض الرجل بهدوء، بخطى ثابتة، وكأن عبئًا خفيًا قد أُزيح عن كاهله.
غادر المقهى، تاركًا خلفه حديثًا حمل دروسًا لم يكن أحد منا مستعدًا لسماعها، في تلك اللحظة، خيّم علينا صمتٌ مختلف.
أغمضتُ عيني للحظة، محاولًا استيعاب كلماته، شعرت بوخزةٍ في صدري وأنا أراقب الأصدقاء حولي.
كانت الشيشة بالنسبة لهم طقسًا اجتماعيًا، لحظات من المتعة العابرة، لكنني رأيتهم بعينٍ أخرى تلك الليلة.
انتهت الجلسة، وحين عدنا إلى البيت، أغلقت الباب خلفي وأخذت نفسًا عميقًا، كأنني أطرد آخر بقايا التبرير.
أدركت حينها أن الحياة أثمن من لحظات راحة زائفة، وأن العادات الصغيرة قد تخفي وراءها خطورة لا ندركها إلا بعد فوات الأوان.
فكري محمد الخالد
التعليقات