نظارة شخص مُتوفّى، قلمُ كاتبٍ رحل..

وتلك الآنية الزجاجية التي أتمت خمسين سنةً وربما أكثر،

كذلك الطاولة الخشبية التي صُنعت بيد أحد أفراد المنزل!


كثيراً ما صادفتنا أشياؤنا، أشياؤهم، بعد أن رحلوا هم أو تغيّرنا نحن،

يكبر الإنسان، يموت، يبلى، لكن بعض أشيائه تعمّر بعده لتسقطَ مشاهدها في حيرة الوجود واللا وجود.. فالزمان مرّ والمساحة المكانية تؤكد: لم يعد فلان موجوداً!

لكن أغراضه تنفي: بلى، قد مر من هنا، قد كان!


وليس كل من ترك خلفه شيئاً هو بالضرورة شخص ذو حضور أو أهمية بالغة، ليس بالضرورة أن يكون كاتباً له نتاج أدبي عريض يشهد عليه، ولا رساماً تملأ لوحاته المكان..

يكفي أنه مرّ..

كان على وجه هذه الأرض يوماً ما،

تبادل معنا جلساتنا في لحظة ما،

ثم اختفى، في عرف المنطق نقول: مات! ولكن في عرف مشاعرنا نتخيله وكأنه تبخر، كأنما هو شربة ماء أودعناها بين أيدينا بغفلة فتسربت من بين فراغات الأصابع، والحق أنه تسرب من بين فراغات الأيام!

فلان سافر ولم يعد، لكن دفتره المدرسي أحمق لا يعرف ذلك، يظهر لنا ويرينا خطّه في بدايات كتابته وكأنه طفل يسأل عن أبيه.

فلان كبر، نضج، اخشوشن، لكن صورته وهو وديع صغير ودميته التي كان لا ينام دونها توقعاننا في حيرة، فهل هو نفس الشخص؟


لا أدري.. هل يتألم الفاقدون أكثر إن كان فقيدهم ذا حيوية مذهلة ونشاطات كثيرة؟

فمثلاً.. ابن تلك الخياطة الماهرة، هل يكون ألمه أشد و"كباكيب" الخيطان والأقمشة خاصتها تطارده في كل مكان؟

وشقيق الرسام، ذاك الذي ترك أوراقه مبعثرة تضج بلمساته فوقها..

وحبيبة الكاتب التي تمر على قصائده بعد رحيله..

كل هؤلاء..

أيتألمون أكثر؟ أم تكون أشياء ونتاجات أحبتهم عزاء لهم فيناجونها أكثر من مناجاتهم للأحياء؟


الإنسان ضعيف!

عبارة ستستخلصها من الموضوع كله.

إنه ضعيف، يذهب وقد يكون شيء، مجرد شيء، أطول منه عمراً وبقاء، يصمد فهو لا يقتله شوق، ولا حنين، ولا يؤلمه مرض، هذا في الغالب!

لكن المذهل في كل هذا هو تمرد الأشياء بعد رحيل صاحبها،

فكما أن بعضها يبقى ويوقعنا في الحيرة..

فإن بعضها تقتله الصدمة، ترى كل الأكواب التي اعتاد الشرب فيها تفيض عن حمل الأيادي الغريبة عليها ولا تألف أصحابها فتنزلق وتنكسر دون أسباب..

ترى "ماكينة" الحياكة تتعطل دون أن تعقد مع المنطق تبريراً يفهمك ما حدث لها،

ترى تلك الفسيلات، والأشجار الخضراء الصغيرة وقد ذبلت، حسناً وإن لم تذبل وأصررت أن تعتني بها تراها بلا روح كأنها تطلب شربة الماء من حبيبها المفقود.


نحن وأشياؤنا ألغاز..

لا حلّ لنا، ولكن..

كم تملك من رصيد القدامى؟

كم فنجان شاي من أيام الخمسينات لديك؟

كم ملاءة سرير بالنقشة المعهودة الخالدة؟

كم تحفة تركوا لأبنائهم ثم لأبناء الأبناء ثم لك؟

إن لم تجد.. فأنت في ورطة!

أو ربما من عندك ستبدأ الحكاية، ابحث في أشيائك، وتخيل.. أيّها سيعيش بعدك طويلاً ويقال للطفل الصغير: "رحم الله أبا جدك، كان هذا الغرض له."؟