فن التحنيط
قد تثير صور المومياوات المُكتشفة أو سماع كلمة "تحنيط" في وقتنا الراهن الكثير من الرهبة، ويحيق الغموض والدهشة خبر العثور على مومياء يتجاوز عمرها 3000 عام، تعرض على شاشات التلفزة أو مواقع الانترنت، وهي لا تزال محافظة على شكلها وملامحها. لكن في حقيقة الأمر أن التحنيط كان أمراً شائعاً وتقليداً واسع الانتشار في حضارات العالم القديم، ذلك لما يحمل من أهمية دينية عميقة في تلك الأزمنة الغابرة.
يعرّف التحنيط بأنه عملية حفظ الجسم بعد الموت، وذلك عن طريق إزالة الرطوبة من جسم المتوفى واستخدام مواد كيميائية أو مواد حافظة طبيعية لتجفيف اللحم والأعضاء، وتمت ممارسة التحنيط في ثقافات مختلفة مثل مصر القديمة، والصين، كطريقة لتكريم الموتى، أو للتعبير عن معتقد ديني مقدّس ومهمّ.
ويُعرف عن مصر بأنها أرض المكنوزات في مجال التحنيط، فالاكتشافات المرتبطة بتوابيت الملوك الذين حُنّطت أجسادهم، وبقيت محافظة على ملامحها بالرغم من تعاقب السنين على تكفينها ودفنها، لاتزال تحمل مزيداً من الألغاز والأسرار فيما يتعلق بالطريقة التي حُفظت بها تلك الأجساد.
وقد برع المصريون القدماء بتحنيط موتاهم، وأطلقوا على هذه العملية اسم "وتى" وتعني التكفين وذلك حسب ترجمة البرديات المصرية القديمة.
الغاية من التحنيط ومراحل تجهيز الجثمان
يكمن سبب قيام المصريين القدماء بتحنيط جثث موتاهم لاعتقادهم بأن الأرواح ستعود إلى تلك الأجساد المحنطة وتتّحد معها، لتحيا المومياء حياة جديدة مشابهة للحياة على الأرض.
من خلال المعلومات التي قدّمها العلم الحديث عبر الاطلاع على المومياوات، وتحليلها من قَبل الدارسين والباحثين وعلماء المصريات، تم التوصل إلى الطريقة التي اتبعها المصريون القدماء في تحنيط موتاهم، وسنسرد المراحل لهذه العملية الدقيقة بمنتهى البساطة والاختصار.
يقوم رجال الدين بخطوات التحنيط ويمارسون طقوساً وصلوات إضافةً إلى معالجة الجثة ولفّها، وقبل عملية التحنيط يتم غسل الجثة باستخدام محلولٍ معقمٍ، وتُدلَّك الأطراف للتخفيف من تصلب المفاصل وتيبس العضلات، وتُغلق العينين باستخدام الصمغ أو أغطية عيون بلاستيكية توضع على العينين ويثبت الجفن عليها، أما الفك السفلي فيُثبت بأسلاك أو خيوط.
خطوات العملية التي تهب الموتى جمالاً..
أولاً: يتم إزالة المخ من داخل الجمجمة، عن طريقة خطاف يتم إدخاله من خلال الفم، وذلك بطريقة الشفط عن طريق الأنف باستعمال الإزميل والمطرقة للقطع من خلال الجدار الأنفي.
ثانياً: بعد ذلك يسحب المخ من خلال فتحة الأنف بسنارة محماة ومعقوفة، ثم يتم استخراج أحشاء الجسد كلها ما عدا القلب، لأنه مركز الروح والعاطفة، وبذلك لا يبقى في الجثة أية مواد رخوة تتعفن بالبكتريا، ويحقن زيت الصنوبر في الأحشاء.
ثالثًا: تمتلئ الجمجمة بمزيج من راتينج الشجر والعطور، مما يوقف تحلل أي أنسجة دماغية متبقية، وكبت الرائحة الفاسدة.
رابعًا: تقطع المنطقة القطنية إلى شرائح مفتوحة، وتتم إزالة أعضاء البطن، وتمليحها بشدة ووضعها داخل "الجرار الكانوبية "وهي أوعية فخارية استخدمت لتخزين وحفظ الأحشاء"، ويخصص لكل من المعدة، والأمعاء، والرئتين، والكبد إناء كانوبي مستقل، وتدفن جميعها جوار المومياء.
وبعد ذلك يتم ملء التجويف الناتج في الجسد بمزيج من العطريات.
خامساً: تمتلئ جميع شقوق الجسد بملح يسمى "النطرون" الجاف، وذلك لاستخراج كل ذرة مياه موجودة فيه، واستخلاص الدهون وتجفيف الأنسجة تجفيفا كاملاً، ثم يوضع الجسد في فراش من النطرون الجاف لمدة تتراوح بين 35 و70 يوماً.
سادساً: يتم غسل الجثة المجففة وتزييتها وتغطيتها بالراتنج السائل كمادة لاصقة، وذلك لسد جميع مسامات البشرة، وحتى يكون عازلاً للرطوبة وطارداً للبكتيريا الدقيقة والحشرات في مختلف الظروف.
سابعاً: يتم لف جسم المومياء بأربطة كتانية قد تبلغ مئات الأمتار، مدهونة بالراتنج تلوّن بأكاسيد الحديد الأحمر، ويتم إضافة شمع العسل كمادة لاصقة في آخر السبعين يوماً التي تتم فيها عملية التحنيط.
للموت فوارق طبقية !
تعتمد عملية التحنيط اعتماداً كلياً على الحالة الاجتماعية للمتوفى، لذا نجد العديد من المومياوات تتزين بقطع من الأحجار الكريمة والذهب، مثل القناع أو الكفن، وكون التحنيط باهظ التكلفة، توفرت بدائل أرخص ثمناً للفقراء والعوام من الناس من الذين يرغبون بتحنيط موتاهم.
وصف المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" ثلاث طرق مختلفة للتحنيط اعتمدها المحنطون آنذاك، حسب الطبقة الاجتماعية للفرد، وميّز أسلوب تحنيط الأثرياء والطبقة العليا عن أسلوب الطبقة المتوسطة وطبقة الفقراء، وكان الفرق باستخدام الأغنياء لمواد طبيعية باهظة الثمن تُجلب من لبنان وسوريا بينما يعتمد العوام من الشعب الطريقة التقليدية مع استخدام المواد المتوفرة في مصر.
في الوقت الذي استخدم فيه الأغنياء نبيذ النخيل والمركبات العطرية لغسيل جوف الجثة، وملئ الجوف بنبات المر والقرفة والتوابل لِيُلف بعدها بالكتان، قامت الطبقة المتوسطة والفقراء من العوام باستخدام زيت الأرز، وملح النطرون لحفظ جثمان الميت، وهذه المواد رخيصة الثمن وتتوافر في مصر!.
متى توقف المصريون عن تحنيط موتاهم؟
بدأ المصريون بصنع مومياوات بشكل يدوي في حوالي 3000 قبل الميلاد، حيث كانت هذه الجهود المبكرة في التحنيط تعكس المعتقدات الناشئة للثقافة خلال تلك الفترة حول الحفاظ على الموتى حتى الحياة الآخرة، وتوقف المصريون عن صناعة المومياوات بين القرنين الرابع والسابع الميلادي وذلك نتيجة لاعتناق العديد من المصريين الدين المسيحي.
أين يمكن رؤية مومياء؟
مومياء الملكة المصرية "حتشبسوت": وتوجد في المتحف المصري بالقاهرة، والتي كانت من أشهر فراعنة مصر لمدة عقدين من الزمن أسست خلالهما العديد من مشاريع البناء والطرق التجارية، وتوفيت في 1458 قبل الميلاد.
مومياء الملك توت عنخ آمون: توجد في المتحف المصري، ويُعد اكتشاف قبر الملك توت عنخ آمون أحد أشهر الاكتشافات الأثرية في العصر الحديث، حيث تم العثور على مقبرته سليمة بشكل كامل، والتي ساهمت في إنتاج أكثر من 5398 قطعة أثرية.
مومياء رمسيس الثاني: كان يُعرف أيضاً باسم رمسيس الكبير ويُعتبر واحداً من أعظم وأقوى وأشهر الفراعنة من الإمبراطورية المصرية القديمة، دُفن رمسيس الثاني بداية في مقبرة بوادي الملوك، وتم اكتشافه في عام 1881، وتوجد مومياؤه بالمتحف القومي للحضارة المصرية.
مومياء أمنحتب الأول: كان أمنحتب الأول هو الفرعون الثاني في الأسرة 18 في مصر، وتتميز المومياء بواحدة من أفخم أقنعة الوجه المحفوظة جيداً، حيث لم يتم فكها أو دراستها عن قرب من قبل العلماء المصريين نظراً لأنها فريدة من نوعها، وتوجد مومياؤه في المتحف المصري بالقاهرة.
هل تنقل الأجسام المحنّطة الأمراض؟ دراسة المومياوات اليوم
من الممكن أن تعيش الفيروسات أو البكتيريا في حالة سبات على مر السنين في الجثث المحنطة، ولكن ذلك يتطلب أن تكون البيئة مثالية ومناسبة لعيشها، ولذلك فإن نقل الأمراض أمر مستبعد.
يضيف علماء الآثار والمتخصصين في وقتنا الراهن الكثير لمعارفنا عن هذا الفن القديم، ويتيح تصوير المومياوات بالأشعة السينية دون إتلاف الأغلفة الخارجية المعقدة، معرفة كبيرة عن الأمراض التي كان يعاني منها المصريين القدماء وعلاجهم الطبي، ومعرفة سنّهم عند الموت، فصحيح أن تلك المومياوات ماتت منذ آلاف السنين، لكنّها مازالت تواصل التحدث إلينا إلى الآن عبر كل اكتشاف جديد.
استند المقال إلى المصادر التالية.
التعليقات