بما أن عدد مستخدمي اليوتيوب شهريا في العالم يعادل المليار و900 مليون مستخدم أي بمعدل حساب واحد لكل فرد، لا بد وأنك لاحظت ظاهرة أقل ما يقال عنها أنها غريبة نوعا ما، وهي ظاهرة القنوات التي تخصص محتواها للجزائر حصرا.

"جسور المحبة" ، "هاني السوالمى" ، "الترنداوية" ،"ردة فعل آية" ، "يزن تي في"، "ردة فعل حسناء"، "إيمان فرح" ، "محمد المصري"، "مستر محمد"، "رد فعل ياسمين"، "منوعات ورد فعل أم عيد"، "زاك بروس"، "علي سعيد"، "إيناس وأحمد" وهي قناة تملكها فتاة أسترالية...وآخرون كثر لا يمكن حصرهم هنا.

انتشرت هذه القنوات كالنار في الهشيم منذ ما يقارب الثلاث سنوات، وقد حققت آخرها أكثر من مائة ألف متابع في أقل من سنة. وقد تم تخصيص محتوى هذه القنوات حصريا للجزائر، كرد الفعل عن المناظر الطبيعية واللباس الجزائري والحلوى الجزائرية والثقافة الجزائريّة...إلخ

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو السبب الذي دفع هؤلاء الأجانب إلى هكذا خطوة ؟.

إن أي فيديو ينزل على الانترنت حاليا هو في المقام الأول من أجل الربح ليس إلا، حتى أصبحت حمّة اليوتيوب تجعل من صنّاع المحتوى أشخاصا منقطعين عن عالمهم الخاص رغم وجودهم فيه. فلا أحد منهم يأكل دون صنع فيديو له وهو يفعل ذلك، ولا أحد يخرج دون تصوير مشاويره إلى حد الوصول إلى نقطة الانقطاع عن العالم وافراغ أفعالهم المسلّية -في الظاهر- من معناها وبهجتها. فيخرجون من حين إلى آخر بوجه متورّد وعيون محمرّة يريدون الانقطاع عن صناعة المحتوى لكن السيف قد سبق العذل، فحتى وهم في أشد حالاتهم بؤسا لا يقدرون على الانقطاع، ووصل الأمر بالبعض إلى صناعة اسمائهم من جعل أنفسهم ضحية وجلب تعاطف العالم. وهي خدعة مثلها مثل تلك الخدعة التي لم يبق صانع محتوى واحد وإلا طبقها، خدعة تصوير فيديو يقول فيه أن هذا سيكون الأخير واسقاط هموم الدنيا على رأسه لجلب المشاهدات والأضواء وجعل اسمه في قائمة الترند، ثم يعود بعد مدّة ويدعي أن متابعيه أصروا عليه أن يعود.

هذه المقدمة تصوّر كيف وصلت حمّة صناعة المحتوى عامة واليوتيوب خاصة إلى قمة الجنون، وجميعنا نلاحظ كيف أصبحت الأخبار الكاذبة والمبهمة توضع على صور الفيديوهات مع دوائر أو أسهم تشير إلى مكان ما بغية حثّك فقط على النقر على الفيديو، واستغلال الكبت الجنسي لدى العرب ووضع صور نساء مثيرات في الصورة الثابتة للفيديو وفي غالب الأحيان لا تكون ذات صلة بالموضوع.

نفس الشيء قامت به القنوات أعلاه. فكل المتابعين للإعلام في العالم العربي، يعترف بأن الجزائر ومنذ أن دخلت في حرب أهلية في التسعينات وإلى ما بعد الجلبة التي أثارتها مقابلة مصر والجزائر 2009 "يمكنكم قراءة مقالنا عن الموضوع في الحساب" كانت مقصيّة إعلاميا مثلما هي موريطانيا الآن مقصيّة إعلاميا وبامتياز. وبعد انتشار السوشل ميديا في المشرق (المغرب العربي سبق المشرق العربي في هذه الأمور بزمن)، وتواصل المغرب بالمشرق، وجد الجزائري أن المشرقيون لا يعرفون عن الجزائر شيئا، وكما قال أحد اللاجئين السوريين "قبل أن آتي إلى الجزائر، كانوا يقولون انها عبارة عن صحراء واسعة لا شيء فيها"، وهذه النقطة بالذات استغلها يوسف زيدان في مقاله "ذكريات جزائريّة" عن الجزائر عام 2009 وقال عنها أنها لا تعدو كونها صحراء ممتدة وهو الذي لم يزر سوى العاصمة.

هذه النقطة العمياء، استغلتها قنوات يوتيوب عربيّة كثيرة لم تجد محتوى تقدر به أن تنافس أخريات كثر، فمعظم تلك القنوات لا تحتاج إلى رأس مال بما أن كل فيديوهاتها عبارة عن جلوس ومشاهدة فيديوهات عن الجزائر.

والجزائري الذي كان متعطشا إلى تصحيح الصورة الخاطئة عن الجزائر في ظل غياب قنوات خاصة فتحت مؤخرا "منذ ما يقارب العشر سنين" (وهي لا تعدو كونها طبول فارغة لا مهنيّة ولا صحافة احترافيّة فيها)، وجد العزاء في مثل تلك القنوات في اليوتيوب، فأن يأتي الكلام المعسول عن بلادك من غريب له طعم خاص ونغمة رنّانة ويكون أكثر تأثيرا على الغريب منه أن يخرج من فم جزائري يتحدث عن بلاده.

ويمكن أن نلاحظ توجّه تلك القنوات التجاري البحت عندما نفذت كل الفيديوهات عن الجزائر ومناظرها وجمالها وإلى آخره. فانتقلوا إلى نشر فيديوهات أقل ما يقال عنها أنها سخيفة، كردة فعل عن نشرة الطقس، أو ردة الفعل عن خطاب تبون...

لكن، ألا تساعد تلك القنوات في التسويق للجزائر ؟

صحيح أن هذه القنوات ساعدت على تغيير طفيف نحو الأحسن، فقد أصبح العرب يعرفون أن في الجزائر أربعة فصول وجبال ثلوج وغابات شاسعة وسهول عظيمة وهي ليست بصحراء، وأصبح العربي أيضا يعرف أن الحلويات الجزائرية تعدّ من أفخم الحلويات في العالم 'المرتبة الأولى افريقيا في مسابقة العالم للحلويات 2017 في فرنسا، و14 عالميا"، وكذلك الطبخ الجزائري الذي فاز بالمرتبة الأولى عالميا في الصالون الدولي المقام في إيطاليا عام 2015. وأيضا تعرّف العربي على الأزياء الجزائرية وشوارعها ومدنها وشواطئها وفنّ الراي خاصتها وكل شيء آخر تقريبا. إلا أن مقابل هذا، هؤلاء اليوتيوبرز، كانوا في البداية عن نهج رابح رابح، فهم يجنون المال من المشاهدات والجزائري تُحسّن صورته في العالم، لكن وبعد نفاذ مثل هذه الفيديوهات، أصبحوا يلجؤون إلى التفاهة المذكورة أعلاه، حتى أن بعضهم دخل على الخط بين الجزائر والمغرب وهو شأن داخلي يقول فيه "الشعب" الجزائري والمغربي أنه" شجار أخوة". ولجأوا مثل الآخرين إلى استخدام اسم الجزائر في تلك العناوين المبهمة فقط للنقر على الفيديو، رغم أن المشاهدات من العالم العربي ليست بالكثيرة، لكن الكميّة توازن النوعيّة في مثل هذه الحالة، فجميع فيديوهاتهم تعدّ بمئات الآلاف وحتى بالملايين أحيانا...

وبعد كل هذا يبقى سؤال واحد، لو يتوقف اليوتيوب عن الدفع للناس، هل سيتوقف ذلك الاهتمام ؟.