أنت مُراقب.

كل خطوةٍ تخطوها هناك من يرصدها. كل كلمةٍ تتفوه بها هناك رقيبٌ عليها. كل صديقٍ تُحدّثه هناك من يُقيّمه. وكل منتوجٍ اشتريته هناك من يُعاينه.

في كل وقتٍ وحين، هناك شخصٌ في غرفةٍ مظلمة، يجلس خلف شاشة حاسوب، ويطّلع على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ تقوم بها في حياتك. وبهذا، يُقرَّرُ مصيرك. هم هناك يقومون بواجبهم، يُراقبون أفعالك ثم يُقيّمونها، ثم يحكَمون عليك بناءًا على هذه الأفعال، ويُصادقون على الحكم.

كل حكمٍ يصدر في حقك هو نتيجةٌ لأفعالك، أفعالك تُحدد إن كنت عنصرًا صالحًا أم طالحًا، إن كنت أمينا أم خائنًا، إن كنت مُخلِصًا أم كاذبًا. وكل حكمٍ من هذه الأحكام يؤثر فيك تأثيرًا مباشرًا، لأنه هو من سيحدد نوع الحياة التي ستحياها، نوع المكان الذي ستعيشُ فيه، نوع الوظيفة التي ستحصل عليها، وحتى نوع الزوجة التي سيُسمح لك بالزواج بها، فالأمر ليس بيدك أبدًا، ولم يكن أبدًا بيدك، لقد كان دائمًا في يد الأخ الكبير، والأخ الكبير يُراقبك.

  • من هو الأخ الكبير؟

  • هو السلطة.

لو قلت لك أن هذا النوع من الحياة ليس عاقبة خيال مؤلّفٍ ولم يعد مجرّد فكرةً من أفكار جورج أورويل، بل هو حقيقة، ألن تظن أنني أهذي؟ فكيف يمكن أن يحدث شيء كهذا في عالمنا؟ أليس الله وحده هو رقيبنا؟

أيها الرجل الطيب، إنني لست أهذي، إنه بالفعل حقيقة، وهو يحدث الآن في الصين، ويُطلق عليه: نظام الرّصيد الاجتماعي.

نظام الرصيد الاجتماعي:

هو نظامٌ طوّرته الحكومة الصينية من أجل مراقبة مواطنيها، ومن ثم الحكم على سمعتهم. هدفه الأساسيّ: صناعة المواطن الصالح؛ المخلص والمجد في عمله، والمتفاني في أداء واجباته.

يعتمد هذا النظام على المراقبة الشاملة لأكثر من مليار وثلاثمائة مواطن صينيّ، ومن أجل هذا نشر القائمون على البرنامج أكثر من 200 مليون كاميرا مراقبة في جميع أنحاء الصين. وبناءًا على هذه المراقبة الشاملة للمواطنين يتم تحليل البيانات ويتم تطبيق مبدأ المكافأة والعقاب، حيث إن كان المواطن صالحًا يحصل على امتيازاتٍ من الحكومة، فتكون له مثلا الأولوية في الحصول على الوظائف ذات الرواتب المرتفعة. وأما إن كان طالحًا، فإن رصيده الاجتماعي سينخفض، وسيخضع لعقوباتٍ كالمنع من السفر، وعدم القبول في وظائف محددة، وحرمانه من بعض أشكال الرفاهية كالتمتع بالانترنت.

إلى الآن، المشاركة في هذا النظام تطوعية، ولكن بحلول عام 2020 ستكون إجبارية على كل المواطنين. وإن هذا المشروع، سيجعل من الصين واحدة من أعتى الدول الشمولية الدكتاتورية على مر التاريخ، إن لم يجعلها الأعتى.

جورج أورويل، 1984:

يبدو أن ما تنبأ به جورج أوريل لم يكن في النهاية مجرد لغوٍ في رواية، بل كان استبصارًا منقطع النظير لمستقبلٍ بائس، يخضع فيه الجميع لمراقبة الأخ الكبير، الذي ينظر إليك بنظرات ثاقبةٍ تنفذ إلى أعماقك، فيرى بها التفاصيل التي لا تراها، ولكنها ما بحدد مصيرك. في روايته، 1984، يخضع جميع المواطنين إلى مراقبةِ الأخ الكبير، الذي هو زعيم الحزب الحاكم، حزب الاشتراكية الانجليزية، أو الانجسوك كما تُعرف باللغة الجديدة، تتم المراقبة عبر لوحةٍ معدنية مستطيلة الشكل تشبه مرآة معتمة تُعرف بشاشة الرصد، معلقة على الجدران، في الشوارع وحتى في البيوت، إنها شاشة رصدٍ ترصد كل صغيرة وكبيرة، حتى عضلات الوجه التي قد تتفاعل مع شعور الإنسان في لحظة ما كانت مراقبة، فليس للإنسان أن يُظهر عدم الرضى أو الاستياء من أوضاع البلاد المزرية مثلا، أو أن يفكر خارج الصندوق الذي فرضه عليه الحزب، فرفة عينٍ واحدة قد تودي بك إلى معسكرات غسل الدماغ، ثم إلى حبل المشنقة بتهمة ارتكاب جريمة فكر.

إن دولة أوقيانيا التي تكلم عنها جورج أوريل في روايته، والتي يعيش فيها وينتمي إليها بطل الرواية "ونستون سميث"، هي من أعتى نماذج الدول الشمولية التي قد يتخيلها الإنسان إذا ما أطلق العنان لمخيلته. وإن النموذج الصيني يُشبه بشكل عجيبٍ النموذج الذي وضعه جورج أوريل لدولة أوقيانيا التي تجري فيها أحداث الرواية؛ ولعل إقليم شينجيانج، الذي يسكنه مسلميّ الأويغور، في الصين أسوء من أوقيانيا نفسها.

الأويغور في شينجيانج، أو تركستان الشرقية:

هم أقلية تسكن في ما يعرف قديما بتركستان الشرقية، يُطلق عليهم الإيغور، تعرض الإقليم للغزو من قبل الصين سنة 1949 وغُير إسمه إلى شينجيانج. أصبح الإيغور يمثلون 45 بالمئة من نسبة السكان في الإقليم بعد أن كانوا الأغلبية، إستوطنوا هناك عام 565 قبل الميلاد. عرقهم يعود للأتراك وإعتنقوا الإسلام إبّان الفتوحات الإسلامية.

لأن الصين دولةٌ ملحدة، وتوجهها الاشتراكيّ لا يمكن أن يتفق مع الإسلام الذي هو دين الأغلبية في هذه المنطقة، يخضع الأويغور لإجراءات تعسفية كالمنع من الصلاة والمنع من الصيام، ومنع النساء من ارتداء اللباس الشرعيّ ومنع الرجال من ترك اللحية، ولكي يضمن الحزب الاشتراكيّ عدم تمرّد هذه الفئة؛ يُخضعها لمراقبة شاملة من خلال ما سماه الخبراء "البرنامج التجسسي الأكثر تطورًا في العالم"، بحيث توجد كاميرات مراقبة في كل زاوية من زاوايا شينجيانج تُراقب الجميع، فيجب أن يفكر كل فردٍ مرتين قبل أن يقوم بأي حركة، فهفوةٌ واحدة قد تودي به إلى معسكرات الاعتقال الجماعيّ أين يوجد أكثر من مليون مسلمٍ معتقل،يتم غسل أدمغتهم قبل أن يخرجوا مُتشرّبًين مبادئ الحزب الشيوعيّ الصيني.

الاستبداد الصينيّ يُصدّر إلى العرب:

العجيب هو أن هناك العديد من الدول العربية التي تُشبه دولة أوقيانيا في كثيرٍ من إجراءاتها، كالاعتقالات التعسفية بسبب انتماء الفرد إلى فكرٍ أو جماعةٍ معينة، تهمتهم هي "جريمة فكر" كما سماها جورج أوريل في روايته، ولا ضير إن سميّناها بهذا الاسم في مجتمعاتنا كذلك. ولكن الاستبداد السياسي في أرضنا قد تقدم خطوةً أخرى، فقد استوردت العديد من الأنظمة الوظيفية في الشرق الأوسط التمكين الرقميّ الذي سهّل بسط سيطرتهم على الشعوب وعلى حركات التمرد ومكنهم من تعزيز قبضتهم الأمنية على المجتمع، فهذه مصرٌ مثلا قد سمحت للصين بالحصول على حصة كبيرة من قطاع الاتصالات، بل إن مصر قد أصبحت الدولة الأشد في مراقبة حرية متسخدمي الانترنت.

ويجزم أولوا الألباب أننا إذا واصلنا التقدم بهذه الوتيرة في مجال الاستبداد السياسيّ والتسلط على رقاب الشعوب ستصير دولنا، في القريب العاجل، من أعتى الدول الدكتاتورية في العالم، وقد يدخل بعضها التاريخ.

هذا مقال نشرته في مجلتي يقظة، وها أنا أنشره الآن، سيسرني جدا تلقي تعليقاتكم وآراءكم بشأن هذا الموضوع، كما يمكنكم متابعة مجلة يقظة للمزيد من المقالات الممتعة والمفيدة: