ندعي دائمًا أننا نمارس حياتنا وفق قيم ومبادئ أخلاقية رصينة، بل ونتفاخر أيُّنا يقيم هذه الأخلاق -الصائبة بالنسبة لنا- بشكلٍ صارم أكثر ونشيد به، ولكن ماهي مصدرية الأخلاق؟! وما مدى صحة اعتقادنا.

سنقوم في هذه المساهمة بجولةٍ بين آراء عدّةٍ من المدارس الفلسفية، والتي بقي هذا السؤال، ولازال موضع حيرةٍ بينهم.

تكلم أرسطو عن هذا الموضوع بشكلٍ غير مسهب، إذ يقول بأنه من الممكن اختصاره في فئتين من القيم الإنسانية:

-الشخصية الأخلاقية

-العقل الأخلاقي

وكان يقول بأن الأخلاق موضوعية، ولها قوانين مثل الظواهر الطبيعية، ولم يكن مهتمًا بالمصدر، إنما كان يتعامل معها كظواهر طبيعية، إذن لها تفسير طبيعي.

ولأكثر من ١٨٠٠ سنة بعد أرسطو، كان مجمل الحديث عن الأخلاق متأتّيًا من وراء نظارة الكنيسة أو الدين .

دعونا نطرح مثالًا عمليًا .. هل الموسيقى أمرٌ مفيد أم سيء؟! أيًّا كانت الإجابة .. أيعد ذلك ثابتًا؟!

يقول سبينوزا بأن الخير والشر أمرٌ نسبي، وأن هذه هي أفكار البشر يحاولون فرضها على الكون، وغيرهم من البشر، وأتى بهذا المثال في كتابه (الأخلاق) والذي يطرح فيه كون الموسيقى مفيدة للمكتئب، وسيئة للعزاء، ولا تشكل فارقًا للأصم!!

كان سبينوزا يسير على منهج أرسطو، ويتّبع المنهج الرياضي، والمنطقي في استخلاص القيمة، وتحليل السلوك .

قاعدته تقول: بأنّ الإنسان يجب أن يحب نفسه ويسعى إلى ما يجعله إنسانًا كاملًا ،أو أكثر كمالًا .

في القرن الثامن عشر ..

بدأ هيوم يتكلم عن تفسير بيولوجي للأخلاق، استكمالًا لمسيرة فرنسيس بيكن، كان متفهمًا بأن المشاعر والمنطق يلعبان دورًا في تقييم الصواب والخطأ، وتفسير السلوك ،ولكنه كان ينظر إلى دور المنطق كدورٍ هامشي ،وأن المشاعر موجودة ولكن تأثيرها ضعيف أو خامل على حد تعبيره، إذ يقول -ومما أجد نفسي أؤيّده به- أن المنطق عبدٌ للشهوات، بمعنى أنك قادرٌ على مَنْطَقَة أي شيء أنت تشتهيه.

كما أن في منظوره أن الأخلاق غريزية، موجودة منذ الولادة، وظاهرة مؤثرة في الدائرة الضيقة للفرد وأسرته، وأسماها (natural virtuse)، ولكن .. ولأن الأفراد محتاجين، بل ومجبورين على التعاون مع المجتمع، وسعت العملية وأصبح التعامل مع الناس متشعبًا ومعقدًا، وظهرت قيم أخرى صناعية أسماها (artificial virtuse)، وهذه القيم الصناعية هي التي تحكم علاقات البشر، وبما أنها ليست طبيعية إذن هي ليست موضوعية ومعتمدة على فهم البشر، فتختلف من مكان لمكان، ومن زمان لزمان.

-أقف هنا وقفة عرضيّةً استفهامية .. هل كل ما هو طبيعي يعد موضوعي ومفيد بالضرورة ؟!-

بالنسبة لكانت، وخلافًا لهيوم، فبالرغم من أنه قال أن المنطق وحده هو الطريق للحقيقة الأخلاقية، إلا أنه قال بأن المنطق وحده غير كافي لإثبات الفرضيات الدينية باعتبرها مصدرية أخلاقية لدى البعض، وفي نفس الوقت، ومما يؤيّد فيه هيوم، قال بأننا جميعًا نملك الحس الأخلاقي، وهو ضرورة فينا، واعترف بسلطة الضمير، وعرّف ما يسمى بالضرورة الحتمية.

عرّف كانت نوعين من الضروريات:

الضرورة الحتمية: وهي فعل الشيء لذاته، وليس لغايةٍ أخرى.

الضرورة الافتراضية: وهي ضرورة للوصول إلى شيء آخر .

مثال مستهلك: يجب أن تدرس لتنجح -ولكننا هنا نقف أمام إشكالية أخرى، إذ هناك طرقٌ ملتفة تصل إلى ذات النتيجة .. كالغش مثلًا-.

في القرن التاسع عشر ..

قدم الفيلسوف جيرمي بنتام، ولأول مرة، شكلًا واضحًا للنظرة العلمية للأخلاق في كتابه (principles of morals) .. والقاعدة التي كان ينظر لها هي أن

(البوصلة الأخلاقية هي تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس) ،

وعرّف السعادة بأنها وجود المتعة والسرور وهنا كانت الانطلاقة لفكرة النظرة النفعية للأخلاق، وقدّم شكل من أشكال التحليل الرياضي لفكرة المتعة والألم لأنه كان يواجه مشاكل كثيرة من قبيل، (ألمٌ دائم لفئة قليلة، أم ألمٌ مؤقت لفئة كبيرة؟!) وهذا سؤال للنقاش.

في مقال (utilitarianism) لجون ستيوارت مل شرح فيه النفعية وأصّل لفكرة قواعد الأحكام الأخلاقة، وفكرته كانت في أن الأخلاق يجب أن تصنع أو تخلق كي نستطيع العيش في مجتمع معقد، كما أنه رفض فكرة الضرورة الحتمية التي نادى بها كانت، وقال أنه يجب التأصيل لقاعدة واحدة للأخلاق والسلوك نكون قادرين فعلًا على تطبيقها على الأرض.

وهذه القاعدة هي أن السعادة هي البوصلة والمنتهى، وأن أي شيءٍ آخر من الممكن أن نرغب به، هو وسيلة للوصول إلى هذه الغاية.

بعد١٠٠ سنة من مل جاء راسل في كتاب (الفلسفة الغربية)، وقال بأن هذه الحجة غير منطقية وصعبة الفهم، فحتى مل عندما شرح مفهوم الصواب والخير، افترض وجود خير ضروري، أي لا يُختلف عليه،

بينما يرى نيتشه مثلًا أنه لايوجد أخلاق موضوعية أو مطلقة .

من الأمثلة التي قالها مل كدليل على الفكرة النفعية هي فكرة العدالة، قال بأن القواعد الحاكمة لتعامل البشر، هي الفكرة العامة السائدة للعدالة، وأن نحكم على سلوك معين إن كان عادلًا أم لا، والرغبة في العدالة نابعة عن غريزتين هما ( غريزة الدفاع عن النفس - غريزة التعاطف)

ولو حصل تضارب في تطبيق العدالة فإن مل يحيلنا إلى فكرة النفعية، وأن السعادة هي الغاية.

كما أن ويليم جيمس أسس لفكرة البروغماتية (العملانية/فلسفة الذرائع) وتعني بأن أي شيءصحيح .. لابد من أن يكون له فائدة على الأرض.

في القرن العشرين ..

وضع جون لزلي مكي نظريته عن الخطأ (error theory) وتقول بأن القيم الأخلاقية فعلًا تحمل الصواب و الخطأ، ولكن رأيه ينص على أن جميع الأحكام الأخلاقية خاطئة ..

مثال: القتل خطأ، وعدم القتل خطأ . كيف؟!

إن نفي الأحكام الأخلاقية كلها هو نفي لوجود قاعدة موضوعية نستطيع أن نحتكم لها، بمعنى لو افترضنا وجود حكم أخلاقي صحيح.. إذن لابد من وجود قاعدة مطلقة تمت المقارنة بها! ويقول مكي بأننا نستطيع خلق القوانين التي تحكمنا بناءً على المنطق والإحساس حتى نعيش في مجتمع معقد في تناغم يوفر السعادة والإنتاج للجميع، بغض النظر عن قيمة الصواب والخطأ .. وهذا يسمى ب(النفعية البروغماتية) .

في كتاب (نظرية العدالة) لجون رولز، قدم ملخص لفكرة النفعية بإحضار مجموعة من المتطوعين العشوائيين، ويطلب منهم أن يشكلوا دولة بشعب وحكومات وتشريعات، ووعي جمعي وأعراف .. إلى آخره. وذلك بتوزيع مجموعة من الأسئلة التي يتم الإجابة عليها بشكل فردي مثل :

-هل توافق على السرقة

-كيف يتم اتخاذ الإجراءات العقوبية

-العبودية

-المثلية الجنسية

-وغيرها .

وبذلك بناءً عليها يتم تحديد هوية المجتمع والتشريعات والأخلاقيات .. إلى آخره.

وكل شخص من المتطوعين سيكون فرد في هذه الدولة ،ولكن -وهنا تكمل الفارقة-

بهويات عشوائية غير هوياتهم.

وعلى ذلك .. كم شخص سيوافق على اضطهاد المرأة أو المثلي الجنسي؟!

أضعكم في ختام هذا التأصيل بالإضافة إلى الأسئلة المطروحة في ناصية و بطن الموضوع .. أمام هذه المجموعة من الأسئلة :

- ما هي مصدرية الأخلاق بالنسبة لكم؟

- وهل تعد المعضلات الأخلاقية كمعضلة العربة أو القطار، مدعاةً للحيرة والتوتر الأخلاقي!؟