بحكم دراستي في كلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر الشريف، يلقبني المقربون مني بالشيخ خالد، وهو لقب أكبر مني بكثير، لكنهم لا ينادونني به إلا ليسألوني في الدين، ومن أشيع الأسئلة التي أسمعها تلك التي تأتيني من أهل البلاء، فيسألونني لماذا ابتلانا الله إلى هذا الحد؟ وكيف لنا ان نصبر على ما نحن فيه؟!

وفي البداية كنت اقول لهم بأن الله يحبهم ويريد أن يربيهم ويحثهم على الصلاح بألا يدع لهم مجالاً للمعصية، ولم يكن كلامي يقنعهم، ولم أكن أنا مقتنعاً به كذلك، ليس لأنه كلام خاطئ، بل إن الله فعلاً يربي ويهذب نفوس المؤمنين بالبلاء كما قال الله تبارك وتعالى في الآية الكريمة:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (155 - البقرة)

ولكن عدم اقتناعهم بإجابتي، وعدم اقتناعي بأنها الإجابة الصحيحة بالنسبة لحالهم، كان بسبب حالهم نفسه مع الله جل وعلا، فالبلاء لم يزدهم إلا تأففا ونفوراً عن العبادة، ولم يهذب من نفوسهم التي زاد إقبالها على المعصية من شيء، وكنت أتعجب من هذا الحال، حتى تدبرت الأمر فبصرني الله تبارك وتعالى بحالهم.

ولنفهم حال هؤلاء الناس علينا أن نفهم البلاء نفسه أولاً، فهل نزل البلاء بهم دفعة واحدة؟ أم أن لهم يداً فيه؟ فالبلاء يبدأ هينا بسيطاً لا صعوبة فيه، ويأتي في صورة اختبارٍ سهل، لكن سهولته تلك لا تجعله ملحوظاً في البداية بالنسبة لمن كان إيمانه ضعيفاً، فيفشل الكثيرون في تخطيه لعوامل الغفلة وعدم التفقه في دين الله، ويدخلون في مرحلة التصعيد، وهي مرحلة يبدأ فيها العبد في تصعيب الامور على نفسه، وتصعيد البلاء عليها دون وعي، ثم يسأل الله في نهاية المطاف لماذا وصل ألى هذا الحد؟ وما هو إلا جانٍ على نفسه!

كمثل شخص يجالس صحبة سوء تدخن وتغتاب الناس، ويخاف من مخالفة هواهم حتى لا ينبذوه، لأنه يجد معهم الأنس والتسلية، بينما هو يصلي الفجر ويحفظ كتاب الله، ويحاول أن يحافظ على إلتزامه، في البداية أقنع نفسه بأنه سيسحبهم لصفه، لكنهم رفضوا صحبته في العبادة، وبدأوا يتأففون من حديثه عن الدين في سهرتهم، فطلبوا منه أن يشاكرهم أو يفارقهم، ولما اختار مرافقتهم وسكت عن الكلام في العبادة وشاركهم في الغيبة، تمكنت أحدايثهم مع مرور الوقت من التشويش على عقله ولم يعد يركز على حفظ القرآن، وتسبب طول سهره معهم في حبسه عن صلاة الفجر، ولما دخل الهم إلى قلبه نتيجة الإعراض عن ذكر الله، أقنعوه بأن السجائر سوف تسري عنه همه فدخن وصار مثلهم، وعندما ذهب إليه شيخه يسأله عن حاله، فوجده يقول له لا اعلم لماذا أضلني الله بعد إذ هداني؟!

وهنا لا بد من توضيح نقطة مهمة: البلاء في القصة لم يبدأ عندما خيره أصحابه بين مفارقتهم أو موافقتهم، بل من اللحظة التي جالسهم فيها لأول مرة، وشهد فيها حالهم الذي لا يرضي الله، وظن بأنه يمكنه سحبهم لصفه، بينما لا يزال هو يحاول النجاة بنفسه من الأساس، فكان البلاء بسيطاً بحيث كان كل المطلوب منه أن يتخلى عن تلك الجلسة وتلك الرفقة وأن يأنس بصحبة الله وعباده الصالحين، لكنه حفظ كتاب الله بعقله لا بقلبه، فلما خيرته الدنيا بين طريق الله وطريق الفتن انخرط في طريق الفتنة، وتقبل أفعال صحبة السوء فجعلوه فريسة سهلة لوساوس الشياطين، فصعّد على نفسه اللبلاء وصار طريق العودة أبعد وأصعب لكنه ليس مغلقا، لأنه إن اراد العودة سيعود.

ومثله من يبتليه الله جل وعلا بمصيبة تفجع قلبه، فتراه ينسى كل إيمانه في لحظة ويتمرد على حكم الله سبحانه، ولا يرضى بقضاء الله ولا بقدره، فيصعّد على نفسه البلاء ويزداد همه وغمه وتفترسه الفتن والرزايا، رغم أن الله تبارك وتعالى أخبرنا بأن المصائب جزء من بلاء الدنيا، والصبر عليها جزاؤه الجنة، لكن عدم دخول الإيمان إلى قلب العبد، يجعله يحفظ كل هذا الكلام دون وعي أو تطبيق عملي، فقد أمرنا الله بالرضا حتى نخفف على أنفسنا وطأة المصيبة، ونتمكن من التعايش مع الأمر رغم الألم، وهو ليس تكليفاً فوق الطاقة، بل رحمة من الله لعباده المؤمنين.

وهذا ما دل عليه الحديث الشريف عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال:

[الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ].

(الراوي : النعمان بن بشير | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم: 52 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (1599) باختلاف يسير)

وهذا الحديث يكشف لنا حقيقة البلاء والفتنة،:

فالبلاء هو: اللحظة التي تختار فيها بين الله وبين الدنيا بأي صورة لها.

أما الفتنة فهي: التصعيد الذي تتسبب فيه لنفسك حينما تختار الدنيا وتفضلها على الصراط المستقيم.

كمن يمشي على طريق ممهد ولكنها ضفة لأرض شاسعة من الطين العزير، نمت فيه كافة أشجار الفواكه زكية الطعم والرائحة، طالما بقيت على الطريق الممهد فأنت على الصراط السليم، لكنك ستظل تشاهد فواكه الدنيا تلمع في شجر الأرض الطينية طول الرحلة على الطريق، فإن قررت أن نذهب لقطفها، غرزت رجلك في الطين وصار الرجوع أصعب كلما تغولت، حتى يشل الطين حركتك تماماً ويكبل قدميك، وتنفذ منك فواكه الدنيا، وتريد أن تذهب أبعد مما أنت فيه، فتغرق كلياً في الطين، وكان يمكنك أن تتجنب كل هذا بأن تبقى من البداية على الطريق الممهد وتصبر حتى يوصلك إلى جنات النعيم.