بقلم – ماهر عساف

(يروى عن عبد الله بن مسعود كتب آية ثم عاد لقرأتها فوجدها قد اختفت ، فقيل انه ذهب للرسول الكريم فقال له النبي اننا انسيناها وما عاد احد يتذكرها ).

 ربما هذه الروايات لا تلامس العقل ولا المنطق ولا تقدم مصداقية لكتاب الله الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو الحق المبين ، والصراط المستقيم

وحين نجري قراءة متعمقة لموضوع الناسخ والمنسوخ في كتب الفقه نصاب بالدهشة والغرابة ، لما يصفون به الله سبحانه وكلامه الكريم ، ذلك أن الله سبحانه ليس كمثله شيء ، ولا يجوز تصور الله في مجال الخلط بين قول الله سبحانه وقول البشر ، فالروايات التي نسبت للنبي ، ثم أعطيت الحق في نسخ القرآن ، هي روايات تحتمل الصحة وتحتمل الخطأ ، واينما وجد الإحتمال بطل الإستدلال ، ثم لا يمكن ان يبدل القول في كتاب الله وهذا بنص القران ( مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ ) ق 27

فالتنزيل الحكيم هو كلام الله الذي لا يبدل ولا يمكن مساواة كلام البشر والمرويات بكلامه سبحانه ناهيك عن تعطيله والغائه ، ومن اكبر المصائب ان تنسخ الروايات كلام الله ، بل وذهب البعض في حال التعارض بين كتاب الله والمرويات الى تقديم المرويات على كتاب الله ، ونقصد بالمرويات ما يقولون عنه الحديث او السنة .

اذا اين الإلتباس في موضوع النسخ مع ان هناك آيات تتحدث عن النسخ بشكل صريح ، وهناك باب كبير في كتب الفقه اسمه الناسخ والمنسوخ يتناقله الناس عبر قرون طويلة اسمه الناسخ والمنسوخ .

تعالوا نحاول الغوص في أعماق الآيات الكريمة ، لعلنا نصل الى الحقيقة والمعرفة التي امرنا الله بها من خلال القراءة ( إقرأ ) والتفكر ( ويتفكرون ) والعقلنة ( لعلهم يعقلون ) والتدبر ( افلا يتدبرون القران ).

معنى النسخ لغويا :

والحقيقة أن كلمة النسخ من الفاظ التضاد ، فهي تعمل المعنى وضده ، وعلينا فهمها فهما صحيا .

 فالنسخ هو التثبيت وعمل نسخ متكررة نقول نسخت الكتاب ، أي عملت منه نسخ متعددة .

والنسخ بمعنى الإلغاء ، فنقول هذه الفقرة منسوخة أي ملغية ، وهذا الاتفاق منسوخ ، أي اصبح لاغيا

 فنحن أمام لفظ يحتمل معنيين ، التثبيت والإلغاء .

والآية الكريمة التي تتحدث عن النسخ ، بينت ان النسخ جاء بالمعنين التثبيت والإلغاء .

الأول : "نأت بخير منها"

هنا يقصد الإلغاء ، والحذف والأتيان بشيء جديد مختلف كليا عن النص السابق ، وهو خير من ما سبقه من تشريع ، واكثر تطورا وصلاحية ومنفعة للناس

الثاني : "او مثلها "

اعطاء احكام كانت في شريعة سابقة ، وتاكيدها في شريعة لاحقة ، وسنوضحها في الحديث عن النسخ في القران

النسخ يكون في الأحكام والشرائع :

ان النسخ يكون في الأحكام ، أي القوانين الشرعية التي تندرج تحت الحرام والحلال

النسخ يكون بين الشرائع والرسالات ولا يكون في الرسالة الواحدة

وعلى هذا نقول ان رسالة محمد نسخت رسالة من قبله من الأنبياء ، وجاءت لنا بشريعة خير منها في الأحكام .

التطور المعرفي والتشريعي والفطرة :

وقد فطر الله الناس بفطرته ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًۭا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم 30

وفطرة الناس هي التطور ، فالتطور العلمي والمعرفي يستوجب التطور التشريعي ، فعند صناعة السيارة واكتشافها علميا ، اقتضى ان يكون هناك تشريع خاص بالسيارة وقوانين السير ويتم تطوير هذه القوانين بما فيه مصلحة الناس وامنهم وسلامتهم ، واي شيء جديد في مجال المعرفة والعلم يتبعه تشريع جديد او تشريع متطور هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها .

والقاعدة هي ان تراكم المعرفة يؤدي الى تغير في التشريع ، وان الأشياء المستجدة والمكتشفة عند معرفتها لا يكون لها تشريع او قانون خاص بها ، ثم يعمد الإنسان بعد ذلك لوضع قوانين لها ويظل يعمل على تطوير هذه القوانين للوصول الى دفع المفسدة وجلب المنفعة .

عملية التشريع بين موسى ومحمد عليهما السلام بينهما رسالتين ، رسالة موسى ورسالة المسيح ، جاء المسيح وغير بعض الشرائع ، قال تعالى ( وَمُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) ال عمران 50

 فالمسيح جاء ليعدل على شريعة موسى ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)                                                                                 

النسخ في القرآن :

 ( مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍۢ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ) البقرة 106

في هذه الآية يتحدث الله عن موضوعين اثنين وهما : النسخ والإنساء .

 وقد اجتهد الفقهاء عبر تاريخ الفقه الإسلامي ، في موضوع النسخ ، ولم يبينوا لنا المقصود بـ "ننسها"

وقد ذهبوا الى القول بأن النسخ هو بمعنى الإلغاء لبعض آيات التنزيل الحكيم ، وان احكام القران واياته تنسخ بآيات أخرى كما تنسخ بأحاديث ولو كانت غير متواترة ، ويتم تدريس الناسخ والمنسوخ كأساس معرفي لفهم الدين ووضع الأحكام الشرعية على الأسس التي اشرنا اليها .

ويعتمدون على الناسخ والمنسوخ في تفسير كثير من الآيات التي اشكلت عليهم .

الناسخ والمنسوخ في القراءة المعاصرة :

بما ان النسخ يحمل معنى الإلغاء ومعنى التثبيت ، فاننا نجد مصداقية الآية الكريمة في الواقع ،فالشرائع التي تم الغاؤها جاءت في سياق ، نأت بخير منها ، أي ان الله عز وجل استبدلها بقانون وتشريع جديد هو افضل من القانون والتشريع الذي سبق ، وهذا هو المقصود بالنسخ ، الغاء حكم أو قانون سابق بحكم وقانون جديد .

ومثال ذلك الأعدام في شريعة موسى الذي كان يقع على 14 قضية ، أما في شريعة محمد فالإعدام يكون على قضية واحدة ، وهي القتل العمد ، فنسخت شريعة محمد شريعة موسى ، بإلغاء احكام الإعدام في قضايا مثل عقوق الوالدين ، فقد اشكل على الناس فهم الآية الكريمة من سورة الكهف ( فلقي غلاما فقتله ) القتل كان بشريعة موسى وهو قتل عاق والديه ، فلما علم موسى سبب قيام الرجل الصالح بقتل الغلام واخبره ان السبب هو ان الغلام عاق لوالديه ، تقبل موسى الامر واعترف انه قد تسرع .

اما التثبيت فقال عنه " مثلها" وهي شرائع واحكام جاءت لموسى وجاءت لمحمد .

قال تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌۭ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌۭ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ) المائدة 45

فهذه الأحكام جاء لمحمد وجاءت لموسى ، وكذلك الوصايا العشر جاءت لموسى وللمسيح وجاءت لمحمد أيضا الفرقان جاء لموسى وجاء لمحمد قال تعالى : ( وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) البقرة 53 وقال عن رسالة محمد ( شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ هُدًۭى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍۢ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ) البقرة 185

وهذه آية النسخ تشرح نفسها بنفسها ، ومصداقية الآية نراها حين نفهم المعنى الصحيح للنسخ ان كان من الناحية اللغوية او من الناحية العملية .

فالأساس الأول الذي نبني عليه رأينا يقوم على ان النسخ بين الشرائع السماوية وليس بين الآيات في كتاب الله والأساس الثاني يقوم على ان التشريع لا يتطور الأ خلال حقب زمانية كبيرة ويحتاج الى فواصل تصل الى عدة قرون ، فشريعة موسى والمسيح بينهما عدة قرون ورسالة محمد جاءت بعد عدة قرون .

والتطور التشريعي او التغير يسبقه دائما تطور معرفي علمي ، فالإنسان وضع قوانين السير بعد اكتشاف المركبات ووضع لها القوانين المناسبة لأنظمة السير والتي اخذت شكلها الحالي عبر التطور والتعديلات بما يتناسب مع امن وسلامة الإنسان ، وكل تطور معرفي جديد ، يقع بعده تشريع لنظم هذا التطور المعرفي ، فمثلا اكتشاف القنابل النووية تبعه اتفاقيات ومعاهدات لنظم التعاطي مع الأسلحة النووية .

سنتطرق للآيات التي لا يمكن فهمها الافي اطار الناسخ والمنسوخ الذي اعتمدوه وقمنا بنقضه .

في بحث خاص اخر انشاء الله .